قراءة نقدية لقصيدة الشاعر محمد نمر “في محراب العلم و التعليم بقلم د.حسان الشناوي

قراءة نقدية لقصيدة الشاعر محمد نمر “في محراب العلم و التعليم بقلم د.حسان الشناوي

قراءة نقدية لقصيدة
هل من الممكن أن يكتب الشاعر ترجمة شعرية عن نفسه؟ أو بعبارة عصرية صياغة السيرة الذاتية شعرا؟ وهل يؤثر هذا النهج في الشاعرية تعبيرا وتصويرا؟
تساؤلات تطرحها طبيعة هذه التجربة التي تتجدد بتجدد وقفة كل معلم حيال هذه المهنة السامية.
ففكرة بطاقة التعريف حين تصاغ شعرا تفتح نافذة من نوافذ البوح الفني الجديد الذي يترسم خطى من انخرطوا في سلك هذه المهنة السامية مهنة المعلم، مضيفا بعضا من ملامح ذاتية نستطيع من خلالها إدراك أوجه التلاقي بين المعلمين الذين وهبهم الله شاعرية رقراقة، وحسا متدفقا بالعطاء تدفقه في عطاءاتهم العلمية.
إن محمد النمر نلمحه خارجا من رحم التعليم، التي ينتسب إليها شعراء كبار مثل: محمد عبد المطلب، وعلي الجارم، ومحمود غنيم، ومحمود حسن إسماعيل، وغيرهم ممن سطعوا في سماء الشعر العربي الحديث نجوما ساحرة البوح. حتى إن شوقيا وحافظا وغيرهما نالا شرف الإطلال على المعلم في قصائد تختلف حولها وجهات نظر النقد الموضوعي.
ولعل بطاقة التعريف التي نمقها شاعرنا النمر تكون متكأ لدراسة حول صورة المعلم في الشعر الحديث، نرى أنها من الممكن أن تكون أطروحة لدرجة الدكتوراه، إذا لم يكن بالفعل بعض الباحثين قد تصدى لها في دراسة مستوعبة.
في أربعة الأبيات التي بدأ بها الشاعر نصه يوشك أن يضع تعريفا شعريا بطبيعة عمله، مبينا غايته من هذا العمل، وأكرم بها من غاية تضم الطمع في الجنة إلى نيل رضا الله جل جلاله.

قراءة نقدية لقصيدة
وتقديم شبه الجملة كاشف عن الاعتزاز بهذا المجال، والفخر بالانتساب إليه، وتزيد هذا الاعتزاز سموا الجملة الحالية في” أرجو”، وكأن بين شبه الجملة وجملة الحال خيطا يربط بين شرف الوسيلة ونبل الغاية.
ويتكئ الشاعر على التصوير الاستعاري في نقل شعوره ببعض الثمار التي اقتطفها لنا؛ فإذا السعادة أينع ثمر يتزودها المرء في حياته، وإذا الفصحى أعذب ريّ. كما يمتزج التشبيه المؤكد في” روض العلوم” بالاستعارة في ” جنيت سعادتي” امتزاجا وجدانيا شفافا يفضي إلى صفاء الرؤية حين تكون الفصحى هي السلسبيل.
وفي بيتين يحدد الشاعر تحديدا واعيا ما يقوم به؛ فعشق اللغة العربية الفصحى يتملك قلبه ويستولي على عقله، ويحتل روحه وفكره؛ فلا يشغله عنها غير عشق متجدد يرتقي بها إليها ويرتقي بنا معها، وإنه لرقي لا يكتفي فيه الشاعر بالتحليق؛ بل ينطلق منه إلى بناء من يتغيون من أبنائنا الطلاب النجاة من مكدرات العيش ومنغصاته وذلك بالعلم؛ إقبالا عليه وحبا لأهله، في عزائم يشد بعضها أزر بعض تقوية لواقع حاضر، واستشرافا لغد تورق فيه الآمال وتثمر.
وكأني بالشاعر أدرك ما يمكن أن يطرح عليه من تساؤلات حول هذا العشق الذي ملأ كيانه نحو الفصحى؛ ففصل بين البيت الثالث والرابع فصلا بلاغيا رائقا قائما على ما يعرف لدى شيوخ البلاغة الأجلاء بشبه كمال الاتصال، وضابطه بإيجاز: “أن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى”.
كان المتبادر إلى الذهن أن يستمر الشاعر في التعريف بنفسه عبر ضمير التكلم الذي افتتح به سيرته الذاتية افتتاحا شاعريا جمع فيه بين التواضع السامق، والفخر المستحق بعشق الفصحى، بيد أن النمر آثر الالتفات إلى ضمير الخطاب؛ تنويها منه بما يقوم به المعلم من دور حيوي في بناء المجتمعات بناء قائما على أسس من العلم النافع والمعرفة الماتعة؛ فليس دور المعلم بأقل أهمية من دور المهندس الذي يشيد ويعمر ويخطط ويبني، أوليس المعلم هو من يبني المهندس والطبيب وغيرهما من أبناء المجتمع؟
يبدأ الشاعر خطابه بنداء كل معلم مخلص أمين؛ فيرى هذه المهنة أغلى الدرر؛ لأن المناصب كلها مهما علت تستمد ضياءها من ضوء هذه الدرة التي لا تخبو.
وينظر إلى مهنة المعلم فتراها بصيرته قد تغلغلت في كيانه كله وعانقتها نفسه؛ رقيا يرفرف في فضاءات النور، وعطاء يتدفق بالخير للناس كلهم.
وينطلق النمر من النداء الموجز الموشح بجماليات الاستعارة في” درة تعلو المناصب” و “عانقتها ذاتي” ليقف من دون بعض التفاصيل في هذه المهنة الجليلة.
ومن الجميل أن يجمل هذه التفاصيل في صفة هي عز الحياة؛ ليعدد بعض مظاهر هذا العز الذي نكاد نفتقده عسى أن نستعيد منه ما برع الشاعر في رسمه.
أيكون عز الحياة أموالا مكدسة، أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وكل ما قال الله تعالى عنه: “زين للناس حب الشهوات…”؟
إن شاعرنا يجيد تحديد بعض ملامح العز في حياة نتطلع جميعنا إليها، وهو لا يفارق وسائل التصوير الفنية الماتعة لا سيما الاستعارة في كل ملمح من هذه الملامح:
-محو الجهل ورعاية الطموح المتوثب؛ في قدرة طلاب العلم على جنى ثمار ما غرسه فيه معلموهم من قيم عليا تسخو على الحياة بعطاءاتها
-تعميق العلاقات بين طلاب العلم انطلاقا من كون العلم رحما بين أهله، تمتد بينهم جسور المودة فيتلاقون معا في تحقيق الغايات وجعل الأحلام واقعا ينبض بالحركة.

-استلال ما يمكن أن يترسب في نفوس طلاب العلم من هواجس تنغص عليهم متعة الدراسة، بالصبر والرفق، وتقديم النصح عظاتٍ رقيقة كأنها لوحات مزهرة لا مواعظ قد تكون منفرة.

-كفكفة الدموع التي تُذرَف خوفا من عقبات الطريق، أو أسى على إخفاق حدث، وليس من وسيلة لكفكفة العبرات غير الحِلم الذي يسع الكون كله بما فيه من رفق وأناة، وحكمة ورحمة.
-جعل العلم مصباحا ربانيا لهداية السالكين سبل المعرفة والتقدم؛ تنجلي به دياجير كل ظلام يخيم على النفوس؛ كأنما الليل لا صباح بعده.
-تحويل الخلق سلوكا منبثقا من الاستقامة، مقتديا بما في الأجداد من مثلٍ انعكست في معاملاتهم؛ ونفوسهم تترنم مترجمة ما يصدح فيه التواصي بالحق والتعاون على البر.
وفي انعطافة وفية إلى ما يمكن أن يحدثه المعلم من تغيير ييمم شاعرنا صوب كل معلم أمين فيقرر واقعا لا مراء في حدوثه؛ ذلك أن لدى المعلم حنكة الطبيب، وقدرة الحكيم على أن يتحول العبوس بسمات وضاء حين يشرق على تلاميذه وهو يخرج من بين جوانحه أبوة ترقرق أستاذيته توجيها سديدا، وتوددا شفوقا لكل تلاميذه.
وإن المعلم حين يمارس دوره لا يريد جزاء ولا شكورا؛ فهو كالزهرة يفوح عبقها بصدق الإخلاص، وهامة يشرئب إليها طموح من يدرك مكانته؛ لهذا أحسن الشاعر تقرير هذه الحقيقة بالاستفهام الذي يدل على النفي، مندرجا فيه التشبيه الضمني؛ فكما أن أحدا لا يستطيع مكافأة الزهرة على عطرها الفواح الذي تنشره بلا انتظار لأجر؛ فكذلك المعلم.
على أن شاعرنا لا يخفي قلقه من قلة تقدير دور المعلم أو تجاهله، أو الغض من تأثيره؛ فحين يتوارى دور المعلم تغييبا أو إهمالا، فلن يجني الناس غير الحسرة سيولا تتدفق بالخسران، وإنها للحقيقة التي نرددها جميعا مع النمر وهو يقررها تقريرا رائقا شائقا؛ فإذا غاب المعلم غامت الحياة؛ لأنه – كما يعبر بصدق وبلا ادعاء – : “سيد السادات”، وكيف لا يستحق أن يكون سيدهم وسبيله سبيل الرسل والأنبياء الذين قال الله في خاتمهم (صلى الله عليه وسلم) على لسان الخليل داعيا ربه: ” رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] (البقرة:129).
وقال في حقه (صلى الله عليه وسلم): ” هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (الجمعة:2).
وإذا كان من طبيعة الإنسان أن ينسى؛ وربما يزداد النسيان بطول الغياب؛ فلا يبقى مذكرا بفضل المعلم غير نور العلم مشرقا بفضله، ساطعا بما قدمه.
وما بين شطري البيت:
الكلُّ يُنسَى بعد طولِ غيابِهِ
ويظلُّ نورُ العلمِ بعدَ مماتِ
نراه مندرجا تحت ما يعرف في البلاغة بشبه التضاد؛ لأن النسيان والغياب عكسهما التذكر والحضور، وهما ما يتكفل بهما الشطر الثاني، مصدرا بظل التي لا تفيد الاستمرار فحسبُ؛ بل تضيف إلى استمرار نور العلم بعدا من أبعاد الحديث النبوي الشريف: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” (رواه مسلم).
وهل العلم النافع غير كتب يؤلفها، أو يشتريها فيوقفها أو أحاديث ومحاضرات ينشرها بين الناس؟ ينتفعون بكل هذا، ويتعلمون منه، ويتعلم بقية الناس من تلاميذه؛ فيبقى العلم على الرغم من رحيل العالم!!
ويختم الشاعر تائيته البديعة ختاما ينفذ فيه إلى ما يود لو ظل سلوكا عمليا قبل أن يرتفع شعارا قوليا تمتلئ به الحناجر، ولا طائل من تردادها إذا لم يقترن القول بالفعل تكريما للمعلم، وإكراما له، وإكبارا لقدره بالتقدير المستحق، ورفع شأنه حتى لا يصبح أنينه أنين شاعرنا الجليل محمد عبد المطلب الشاعر البدوي:
بني مصر، ما بال المعلم كاسفا
يرى الناس دوما يكبرون ويصغر؟
ويحسب للشاعر حسن الاقتباس وتوظيفه توظيفا فنيا تربويا خلقيا؛ لا يكتفي فيه بأن يتغنى بها الناس مشيدين بفضل المعلم وفضائله؛ إنما يومئ في آخر شطر من قصيدته إلى حتمية تكريم المعلم تكريما عمليا؛ لأن عدم تكريمه خيبة كبرى تجعل المجتمع يعود بخفي حنين حين يتجاهل هذا التكريم أو يكتفي بتكرار قول شوقي (رحمه الله):
قم للمعلم وفه التبجيلا

من ثمّةَ نرى أن الجملة الشوقية: “قم للمعلم” تتماهى مع غايات الشاعر النبيلة التي ضم إلى التغني فيها بفضل المعلم صدق التنبؤ.
وفي الشعراء أنوار من النبوة تمنحهم القدرة على الاستشعار عن بعد؛ كأنما يرون ببصائرهم ما يمكن أن يقع؛ لا اطلاعا على الغيب، بل شفافية نورانية في نظراتهم الثواقب.
قولَب شاعرتنا قصيدته في صورة من صور البحر الكامل وهي ما كانت عروضه صحيحة وضربه مقطوعا؛ مؤثرا قافية موصولة مردوفة؛ جاعلا الروي تاء متولدة عن إشباعها الياء.
ونرى في هذه الأبعاد الإيقاعية اتساقا وجدانيا محلقا فيه تصوير نمام عن قدرة الشاعر على توظيف التعبير بتراكيبه المتنوعة والخيال بأدواته المتعددة؛ وإيثار المفردات التي توائم الفكر والحس معا.
وكأني بشاعرنا – وواضح بصره بطبيعة التجارب الشعرية – لبى ما في القافية من شعور يجمع بين قوة الفخر بعشق مهنة المعلم في محراب الفصحى، وسمو التواضع في تقديمه سيرة شعرية وددنا لو اتسعت جوانبها بإضافة أبعاد نثق في قدرة الشاعر على إضافتها لتكون قصيدته إحدى أيقونات الشعر العربي المعاصر عن المعلم.
ونكاد نلمح شوقيا وحافظا في هذه التائية؛ إذ قصيدة شوقي منتمية إلى هذه الصورة من الكامل التي ألمعنا إليها، في حين أن قصيدة حافظ عن اللغة العربية تعزى إلى البحر الطويل؛ فكأنما أراد الشاعر الوقوف بينهما بالردف قبل الروي الموحي بجلال الفخر انتسابا إلى الفصحى، ولكنه فخر من يسمو بتواضعه ويدنو بحرصه الأمين على بلورة النصح، والهمس في التاء يمد من النصح نهرا متدفقة أمواجه بالخير.
ـــــــــــــــــــــ
ملاحظات عوابر:
أبني الفضيلةَ في نفوسٍ قد أتتْ
تبغي النجــاةَ لحــاضرٍ والآتي
قد يكون الأنسب للسياق تنكير الآتي ” لحاضرٍ ولآتِ”، ليس موافقة لتنكير الحاضر فحسب؛ بل أيضا لكون الأمل في النجاة عاما لدى طلاب العلم
نتذوق البيت على النحو الآتي:
ومحوتَ بالصبر الجميلِ وساوسا
ونقشتْ بالقلــمِ النبيلِ عِظــاتِ
فالمحو فيما يبدو لنا لايبقي أثر للممحوّ في حين قد تبدو بعض الآثار الباقية بعد الإزالة.
ورسمتَ بالخلقِ القويم حكايةً
عزفت حروفُك أقدسَ النغماتِ
قد يكون العطف بالفاء في بداية الشطر الثاني ألصق معنى وشعورا لتكتمل الصورة ببهائها الآسر؛ لذا نرى أن يكون أول العجز: ” فشدت” بدلا من عزفت؛ إذا التعقيب بالفاء يوشك أن يعقد الآصرة بين شطري البيت؛ وكأن الشعر يترنم بما في الحكاية من أنغام مقدسة.

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة

خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة سقيفة المواسم الألكترونية جاءت قصص صفاء فارس الطحاينة وهي فنانة تشكيلية وصاحبة ذائقة فنيّة رفيعة تجمع بين تموجات وظلال الخطوط وإيقاع الحرف الشفاف،

%d bloggers like this: