قراءة نقدية لقصيدة سفانة بنت ابن الشاطئ : ” حيرة المحبين بين أخذ ورد “بقلم: د.وائل علي

القصيدة للشاعرة الفلسطينية سفَّانة إسماعيل شتات ، وشهرتها سفَّانة بنت ابن الشاطئ ، واسم السفَّانة اي اللؤلؤة أو الدُّرَّة ، وبها سميت بنتُ حاتم الطائي، ويقالُ: هُوَ أَجْودُ من أَبي سفّانَةَ ( تاج العروس من جواهر القاموس )
وللشاعرة نصيب من اسمها فهي لؤلؤة ثمينة ودُرَّة فاخرة في عالم القريض ، تفيض بكرم خلقها على معاني شعرها الذي يفيض عذوبة وسحرا ، وقد ظهر أثر ذلك في قصيدتها ” حيرة المحبين بين أخذ ورد ” والقصيدة اثنا عشر بيتا من بحر الطويل ، وهي عبارة عن حوارية بين طرفين أو بين محبين ، وللرجل النصيب الأكبر أو مثل حظ الأنثيين ، وعنوانها يسلط الضوء على ما يصيب أنفس العاشقين من تباريح ، وتتكون القصيدة من ثلاث مقاطع :
_ الأول على لسان المحب ،
الثاني تجيب المحبوبة ، الثالث الأخير يرد الرجل .

تقول الشاعرة سفانة بنت ابن الشاطئ في مطلع قصيدتها ” حيرة المحبين بين أخذ ورد” على لسان العاشق :

إقتباس:

يـقـولون : إن الـحبّ تُـخشى فـصولُهُ

تــسـومُ الـمـحـبين الــونـى وتُــذلِـلُ

ويـنـشـرُ أوجـاعـا تُـشـاكسُ يـومَـهم

فـلـيس يــزور الـقـلبَ سـعـدُ مُـرفّـلُ

أحــبُّـكِ يـــا لــيـت الـكـلامَ يـريـحني

ولـــو أنّ إحـسَـاسِـي بـفـعـلٍ يُــؤَوَّلُ

إذا الـكـلُّ قـالـوا: مـاجن!!كنتُ كـاتماً

وأنــفِـي أقـاويـلاً ..لـمن كــانَ يـجـهلُ

لقد عبرت الشاعرة عن أزمة انسان محب ذاق صنوف العذاب في حبه ، ولقي فيه من العنت ما لقي ، وتحمّل الضعف والوهن ، ولم يشعر قلبه بالسعادة الدائمة ، إن الكلمات أخفقت في التعبير عما يكنه لمحبوبته ، ويخاف أن يُتهم بالمجون .
وقد تناصت الشاعرة مع الشعر القديم في البيت الأول ، مع قول الشاعر :

يقولون: إنَّ الحب كالنار في الحشى … لقد كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وقد اتفق المعنيان في كون الحب لا تهدأ ناره ولا تخفى آثاره، وقد نهلت الشاعرة من معين التراث في مفرداتها في مثل ( تسوم ) بمعني تذيق ، و (الْوَنَى) أي الضَّعْفُ وَالْفُتُورُ وَالْكَلَالُ وَالْإِعْيَاءُ، ووصفت السعد بأنه ( مُرَفَّلُ ) أي طويل مستمر، وهو من قولهم أَرْفَلَ الرجلُ ثيابَه إِذا أَرخاها وأرسلها. وإِزار مُرْفَلٌ: مُرْخًى. ورَفَلَ فِي ثِيَابِهِ يَرْفُلُ إِذا أَطالها وَجَرَّهَا مُتَبَخْتِرًا.
ويأتي جواب الأنثى مفعما بالمشاعر الرقيقة المتبادلة ، متضمنا اعترافا صريحا بالحب ، ومعبرا عن تجربة عاطفية ملتهبة متدثرة بثوب العفاف، تلك هي الرومانسية في أرقى حالاتها وأصدق لحظاتها ، تقول :

إقتباس:

حـروفكَ سـقفٌ يـنضوِي الـقلبُ تحتُه

فـتُـنقَشُ فــوق الـروحِ وشـماً وتَـغْزِلُ

تـشقُّ عُـبابَ الـفكرِ .. تـرسُو مـواجعٌ

على شاطِئ الأشواقِ تَروي وتَغسِلُ

وتَـشـدُو تـباريحٌ.. تُـسافرُ فـي دمِـي

عـصـافـيرَ مـــن زهـــوٍ تـطـيرُ وتـنـزلُ

أحــبّـكَ ..يا لـيـتَ الــزمَـانَ يُـعِـيـدُني

إلـيـكَ و بالأشواق نحوكَ أرحلُ

ولقد حشدت الشاعرة عددا من الصور الرائعة التي تشكل مع بعضها البعض صورة كلية تنتظمها وحدة عضوية تحقق أهم سمات الرومانسية ، ومنها (حروفك سقف – ينضوي القلب تحته – تنقـش فـوق الروح وشمًا – وتَغزل – عباب الفكر – ترســـو مواجـع – شاطئ الأشواق – وتشدو تباريحٌ – تســافر عصــافير من زهو ) وتنوعت الصور ما بين التشبيهات والاستعارات المبتكرة التي شكلت صورا مركبة تنم عن إدراك الشاعرة ووعيها بقيمة الجمال .

وتختتم الشاعرة قصيدتها برد من العاشق الذي لا يزال حائرا حيال المسافات التي تفرق بينه وبين منى قلبه ، فتشتعل نيران الفراق ويحترق بها فؤاده ، ويتراءى له شبح الموت الذي يطارده دائما، ويظل أسير الذكريات الأليمة التي تتركه تعيسا ، بأفعـــالها التي لا تتبدل .

إقتباس:

بـعادٌ وقُــربٌ والليالي تَـسُومُني

فـــــ تَـهـذِي مَـجـامِيرٌ وتُـنْهَى مَـسَائلُ

لـهـيبٌ يُـكَـوِّيْ هَــدْأَةَ الـفِـكرِ مُـحَرَقٌ

فيدنو حَـرِيقٌ مِـن فُـؤادِي فَـيُشعِلُ

تَـجَسّد فِـيْهِ الـمَوتُ .. شُلّتْ مشَاعِرٌ

يُــراوِغُــــــــه.. وجــــــــــــه بزيف مكــــــــــــلل

تُـحَـاصِرُني الـذِّكْـرَى وتَـحْـمِلُ أَطْـيُـفًا

وتُـتْـعِـسُـنِي أفْـعَـــــالَـها الـــلاَّ تَـبَـــــــــــدَّلُ

تناصت الشاعرة في قولها ” والليالي تسومني ” مع القرآن الكريم في قول الله عز وجل : ” وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُم ” البقرة: 49، وقولها ( يُكَوِّي ) بتضعيف الواو ، تناصت فيه مع قول الله تعالى : ” يُذَبِّحُونَ ” ، فهل قصدت الشاعرة الجمع بين الفعلين ( تسوم – يكوّي ) كما ورد ذلك الجمع في الآية الكريمة بين ( يسوم – يُذَبِّح ) ؟ وهل تريد أن تقول لنا إن طغيان الحب وقسوته كطغيان فرعون وسطوته ؟

ويأتي معجم الشاعرة سفَّانة زاخرا بالسفَّانات اللغوية الرفيعة، والتراكيب اللفظية البديعة ، التي تنطلق من التراث لتلتحم مع روح العصر ، ومن ذلك قولها ” فتهذي مجامير ” ، ولعلها مقتبسة من قول الحصري القيرواني : ” ومن ألفاظهم في صفات مجالس الأنس وآلات اللهو وذكر الخمر : وفاحت مجاميرٌ الأترجّ “( زهر الآداب وثمر الألباب 2 / 504) ، وهي المَجَامِرِ ، واحدتها المِجْمَرَةُ ، وقيل جَمْعُ مِجْمَرٍ ومُجْمِرٍ، فَبِالْكَسْرِ هُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ النَّارُ وَالْبَخُورُ، وَبِالضَّمِّ الَّذِي يُتَبَخَّرُ بِهِ وأُعِدَّ لَهُ الجَمْرُ. ( لسان العرب / جمر )
وقولها ( اللاتتبدلُ ) أي التي لا تتبدل ، وتلك درة من درر الشاعرة ، تنم عن إلمام بالنكات اللغوية التي حفلت بها كتب النحو، وهي مجيء ( ال ) بمعني الاسم الموصول ودخولها على الفعل المضارع كقول الفرزدق :
ما أنت بالحكم التُرضَى حكومتُه … ولا الأصيلِ ولا ذي الرأي والجدل
أوضح المسالك لابن هشام 1 / 45

القصيدة بها من جودة الصياغة وجمال العبارة والتصوير ، وليس تلك هي الكلمة الأخيرة ، فهي تجربة غنية وثرية .

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: