قراءة نقدية لقصدة الشاعر سلمان بن محمد العيد قد رافقتني همومي بقلم : د. عبد الله كُراز

الصور الشعرية ودلالاتها النفسية في قصيدة “قد رافقتني همومي” للشاعر السعودي سلمان بن محمد العيدتنبري القصيدة على الوقوف على أطلال الأنا الشاعرة عبر مراحل تطورها الجسدي والفكري والمعنوي، مسترجعةً تفاصيل الماضي بكل تجلياتها وهمومها ورغباتها وأحلامها. وتشتبك في لوحة القصيدة ثلاثية الذات / الأنا والهو / الآخر والأنا العظمى / الأعلى، حيث مصانع الرغبات والأحلام والأمنيات وانفلاتها وكوابحها وضوابطها ومنظومة التحكم فيها.
“قد رافقتني همومي،” هنا يعبر الشاعر عن أناه، التي أنسنت وآنست همومها منذ أن فتّحت عينيها على قرص الشمس وبدر القمر، وتفاعلت معها الذات الشاعرة التي أبدت قلقها العميق والمؤرق (القلق العصابي). القصيدة تهيمن عليها لغة جزلة وتسيطر عليها أنا الشاعر المتشظية والمستسلمة لهموم حياتها، الداخلية والخارجية، لغة ديناميكية، وقودها الطفولة والشباب والتقدم في العمر مع كل ما يعتريها من سقطات وهفوات ورغبات ونجاحات وإنجازات واخفاقات.
النص مسرود شعراً، تقف الأنا الشاعرة عند عتبات ولوجها في كما يقول الشاعر “مقام الذل والغرق” الذي تسبب بانتكاسة حسية وشعورية للذات التي تفصح عن ألمها ووجعها بطريقتها الصريحة والمفصلة، وقد فشلت في الفوز بـ “مقام العز.” وبحسب ابجدية الشاعر هنا، تتضح رغبةٌ مكبوتة للأنا الشاعرة وفشلُ اول في تجربته الحياتية، لتبدأ معها الدفاعات النفسية والشعورية في التفاعل مع أحداث تصارعها وتتحداها الأنا الأعلى التي تستضيف المنظومة الضابطة والأخلاقية المتزنة والمتوازنة، حيث الضمير الإنساني وقيمه التي تضبط بل تكبح جماح رغبات الهو وأفكارها.
إن “الهو” الشاعرة هنا هي التي تخزن وعلى مدار تجربتها الحياتية الشعور والرغبات المكبوتة والمقموعة ومشاعر اليأس والتشظي، وتُمثل بشكل دلالي بضمير “الغائب” حيث لا تراه العين “عين الأنا الشاعرة ولا عين المتلقي.”
وبناء عليه، يخبرنا الشاعر وبشكل مكثف عن ألمه غير المسبوق فيقول: “فما رأيت بعمري غير ذي ألمي” يصفه في تشبيه صريح في “كالحبل في العنق” ليخنق أحلامه ويقمع رغباته ولا يجعل في فضاء حياته متسعاً للمناورة والتحدي .
تستسلم الأنا المقموعة هنا ولا تقاوم، حيث الحزن يضج في ذاكرته ويشكل بؤرة محكية تتسيد فضاء النص، وبين الأنا والنص، تكمن تجليات اللغة ودلالاتها وأدوات التعبير والتصريح والمجاز في كل بيت يرسم حروفه الشاعر ليعبر عن مخزون “الهو” الذي تستسلم الأنا الشاعرة له، حيث يقول “فهذه قصتي تأسي حوادثها، من هولها جزعت روحي، فلم تطقِ.” وتصبح الأنا أيضاً أسيرةَ شجونه وأحزانه وأوجاعه إلى حد “اعترت جسدي معالم الموت، قد حلت مع الربق.”

ويستمر الصراع بين الثالوث المتمثل في الأنا والهو والأنا العظمى، حيث ينادي الشاعر “لكم شقيت لأرجو وصل فاتنةٍ قد تهت في عشقها دهراً بلا علق.” فمن رموز البيت الشقوة / الشقاء، الرجاء / فاتنة / حبيبة / التية / الاغتراب / العشق، يصرح بها الشاعر باحثاً عن رغبته الجامحة في أن يتحد مع حبيبته عشقاً وحباً ووجدأ ولكي يبدد التيه الى اتحاد واستقرار وهي رغبته الأكيدة، وهنا تتمثل فكرة الإسقاط المبطن، حيث تعزو الأنا شقاءها وتيهها و اغترابها إلى حبيبته التي ربما تركته وهو في أمسِّ الحاجة لها، وما يعزز هذه الفكرة هو تكرار كلمة تاه ومشتقاها مثل التيه / تهت / أتيه / يتيه / التائه / التي تكشف عن تكثيف متعمد من الذات الشاعرة كي يبحث عن خلاص لهذه الأزمة المتلازمة له.
ويواصل الشاعر التعبير بلغته السردية الشاعرية الجزلة عن رغباته الدفينة وأوجاعه الملاصقة لروحه وحدسه، وعن معاناته الشعورية الحسية التي تتسيدها نبرة حزينة بائسة عميقة يكتنفها إكتئاب يبحث عن شفاء له وخلاص من لدن حبيبته أولاً، ليقول الشاعر “ألا اعذريني إذا ما جئت مرتبكاً أو جئت أمشي بلا وعي ولا نسق،” فهو محطم الأوصال، تائه الخطى، مغترب ومتشظي، وهنا إلحاح من الأنا الشاعرة على تقديم الأعتذار الواجب لحبيبته عن خطأ ربما أرتكبه بحقها، فأصبح هذ الخطأ لعنة تطارد أناه وتعمق جراحها. أيضاً، نلمس هنا إلحاحاً من الأنا على مواجهة الواقع وتوسلاً من حبيبته لكي تعذره وتعود إليه ويلتحمان نفساً وروحاً، وتستمر الأنا التائهة تبحث عن فضائها موظفة ضمير المتكلم الذي يركز على الذات المتألمة وجنونها وتشظيها واغترابها. يقول الشاعر “أني أنا التائه المنقوص فارتجلي علي شعراً وردّي بعض مؤتلقي” لتسطر في لوحه النص أمنية كبرى ورغبة جامحة في أن ترتجل حبيبته عليه شعراً يبدد لوعته ووحشته و تيهه وضياعه النفسي والمعنوي والعاطفي. وفي كل فضاء القصيدة، نجد الشاعر يبحث عن تعويضِ فقدِه لحبيبته ولمشاعرها وعواطفها واحاسيسها نحوه، وكلها رغبات مكبوتة ومقموعة في الداخل النفسي للأنا الشاعرة، مما يدفعها للتعبير عن عدم رضاه وعن همومه وأوجاعه بأساليب أخرى هي آليات دفاع معنوية عن النفس الإنسانية للذات الشاعرة.
ثم نجد الشاعر يكثف من صيغة الطلب والرجاء من حبيبته “الهي” الأنثى، في “وصيريني شعاراً في الديار على وميض ضوء بدا في جبهة الشفق،” حتى يصرخ قائلاً “وألبسيني ثياب الفخر والتمسي عذراً لما يعتري عقلي من النزق،” هنا نجده يبوح بكل شيء من بؤرة اللاوعي في فضاء الوعي ويحرر اللاشعور نحو مسرح الشعور كي يصور نفسه ضحية “الهي،” ولذلك نراه يستخدم كلمة “ثياب” اسم الجمع، ومرة أخرى يطلب العذر من (حبيبة) الغائبة جسداً / الحاضرة روحاً .
وهنا تتضح لنا رغبة الشاعر في البوح عن رغباته المكبوتة ومشاعر اليأس والتشظي موظفاً ضمير المتكلم الذي يتحدث عن شخص غائب ويختزله في ضمير الغائب، الذي لا تراه عين الأنا الشاعرة. وما يدل على يأس الشاعر وكآبته وفقدان الأمل مع حبيبته الغائبة لجوؤه إلى الطبيعة متوسلاً إليها لتريه النور في غياهب الجب الذي سقط فيه بعيداً عن حبيبته، ليقول بصيغة المنادى “يا كوكب النور سيري في أماكننا وخلْصي بعض أثوابي من الخلق.”
نقف ايضا في بحر القصيدة على أساليب الرجاء والنداء والتوسل “يا كوكب” وعلى الجمع في “أماكننا” وفي “أثوابي،” فالأماكن في مجموعها وجمعهأ هي له ولحبيبته، والأثواب هنا تخصه هو وحده. لذلك يكرر كلمة “أرجوك” وكلمة ” أريد” ليكثف الشاعر مرة اخرى من توسله ورجائه حيث يقول “أرجوك يا حلمي …. أرجوك يا نغمة الألحان،” فيما يبدو أنها رموز لحبيبته التي تركته ليتوه، ولذلك يخاطبها في رجائه وكانها حاضرة في وعيه “كلاما استنير به” و “رمشك يرقيني.”
وفي كل هذه التداعيات الفعلية وتراسل الرجاء والتوسلات رغبة حقيقية جامحة للعودة إلى الماضي الجميل مع حبيبته مجسدةً نوستالجيا الأنا الشاعرة، ودالةً على وجود عقدة نفسية مؤلمة لدى الذات الانسانية التي تتسيد تلك الرغبات والأحاسيس الانفعالية التي تهيمن على منطقه اللاوعي دون جدوى.
هنا أيضاً، نجد الأنا الشاعرة تخلق حالة أسطورية من العلاقة المضطربة والمتشظية مع حبيبته (الآخر الأنثوي)، وبالتالي يريد الشاعر في اغترابه وتشظيه وتوهانه أن يستجمع هويته الشخصية مرة أخرى من حبيبته، فيقول “أريد منك كلاماً أستفيق به فإنني اليوم أمضي دونما أفق” و “أريد منك هدى يضيء دربي، هدى لاعتلى هامة الابداع في طرقي). ومرة ثانية، يدل تكرار الشاعر استخدامِ ضمير الأنا (المتكلم) على تفرده وعلى اغترابه وانعزاله الجسدي عن الآخر (حبيبته)، ولكن روحه وهواه تبقيان متعلقتين بها.
في كل تفاصيل النص، يبدو الشاعر كما المريض الشاكي الذي يبوح بكل جوارحه واحاسيسه وتوتراته وافكاره بطريقة متسارعة وكأنه في عجالة من أمره – بحسب سيغموند فرويد – الذي يعد أول من وجه اهتمامه الرؤيوي نحو المؤلف، الشاعر هنا. وبالتالي، نجد الأنا الشاعرة تلجأ إلى عوالم الميتافيزيقيا الروحانية توظفها كي تخلصها من تيهها واغترابها وتشظيها وتعيد الحبيبة لفضائه ودنياه، فيقول “الحمدلله” ثم “أعوذ بالله أني لم أرد غرضاً ينتابني لحظة الأغواء والشفق” وأخيراً يقول “أستغفر الله من شرٍّ ومن شررٍ قد عذت منه أنا في سورة الفلق،” وهو لجوء أخير للشاعر، ودونه موت محقق لا تتمناه الأنا الشاعرة.
خلاصة القول، إن شخصية الأنا الشاعرة هنا تتشكل من صراعها مع الثالوث المتمثل في (الضمير) و (الدوافع الغريزية المكتنزة بالطاقة الحيوية) و الدافع المحيط بها، ومجازاً ربما تلوح في أفق النص عقدة أوديب، التي ترجو من خلالها الأنا الشاعرة العودة إلى حضن الحبيبة (وليس الأم هنا) – حيث الأنثى هي أم وتلعب هذا الدور حتى وهي غير متزوجة. كما أن دلالات الأفعال كلَّها تشير إلى حالة الذات الشاعرة المتشوقة للحبيبة وما تمثله، ولكلِّ ما يدل ويرمز لها، لذلك يستخدم الشاعر لغة جزلة مباشرة دون تعقيدات في الصوغ والتراكيب والمجاز حتى يمكّن المتلقي من التوحد معه والتماهي مع حالته الشعورية.

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: