صُدفة .. صفاء فارس الطحاينة

بعد أن صلّى فجره، خرج من شقته البسيطة في إحدى ضواحي عروس الشمال، وتوجّه إلى سيّارتِه “التاكسي” أدار محرّكها وانطلق يبحثُ عن بركةِ رزقه في باكورةِ يومه.

من بعيدٍ، لمحَ امرأةً في العقد الثامن من العمر. ترتدي ثوباً حالكَ السواد، وتشدُّ صدغيها بعَصبةٍ مُطرّزةٍ بخيوطٍ حمراءٍ وأخرى ذهبية.تحملُ صُرّةً متوسطةَ الحجمِ بإحدى يديها، وتلوّح له بالأخرى.

شقّ عبابَ الطريقِ نحوها، وهو يستمعُ إلى آياتٍ قرآنيةٍ عبرَ أثير المذياع.

 خففَ من سرعتِهِ حالَ وصوله إليها، وبكبسةِ زرٍ على يسارهِ، فتحَ النافذةَ اليُمنى ليتمكّن من سؤالِها:

  • أين وجهتُـكِ ياحجّة؟

اقتربتْ العجوزُ بخطواتٍ متثاقلة، وهي تُتمتمُ بصوتٍ ناعمٍ وحنون:

  • إلى عمّان يا ابني.

رفعَ حاجبيه، ونظرَ إليها بعينين جاحظتين.نبرةُ صوتِه لم تُخفِ عنها امتعاضه، وهو يقولُ مبرراً رفضهِ:

  • المسافاتُ البعيدةُ تحتاجُ إلى تصريحٍ ياحجّة، والشارعُ إلى عمّان مزروعٌ بدورياتِ الشرطة!

تقدّمتْ بظهرها المنحني، وتشبّثتْ بنافذةِ السيّارة بيديها ذات العروق الخضراء النافرة، ومدّتْ رأسَها إليه، وهي تقولُ بصوتٍ يشوبُه القلقَ والرجاء:

  • ابنتي ستلدُ بِكرها، ويجب أن أكون في المستشفى إلى جانبها.

أشاحَ برأسِه عنها، ولم يحتجْ إلى الكثير من الوقت ليفكر ويعطيها الرد:

  • ليس هناك ثمّة طريقة أحتالُ بها على الشرطي إن أوقفني سوى الادّعاء أنّكِ والدتي …

قاطعته العجوزُ، وهي تهزُّ رأسَها موافقة:

  • حسناً يا ابني، بكلِّ سرور، فأنا لا أرضى بالإساءةِ لكَ، حتى وإن كلّفني ذلك كذبةً بيضاء كهذه.

لم تتوانَ عن فتحِ باب السيارة الأمامي، والولوج إليها دون أن تترك له مجالاً للتردد أو الاعتراض.

  • أعدك بذلك يا ابني ..

بدأَ ضوءُ الشمسِ ينبجسُ من خلفِ التلال رويداً رويداً .. وتدفّقتْ أشعّتُها لتطبع على جبينه قبلة رضا .. صوتُ العجوزِ الرتيب وهي تتحدثُ عن أولادِها العشرة لم يزعجه بتاتاً، بل ذكرّه بوالدتِه “رحمها الله”. شعرَ بالحنين أكثر عندما دسّت العجوزُ يدها في “البُقْجَة” فتسللتْ منها رائحةً شهيّةً، داعبتْ نهايات الأعصاب في أنفه. بدأَ يبثُّها جزيلَ شكره قبل أن تُخرج “مناقيش الزيت والزعتر” وتُناولُه إياها، وهي تشرحُ بفخرٍ كيف قامتْ بلتِّ العجين والانتهاء من خبزه قبل أذان الفجر.

تأثيرُ الإضاءة الزرقاء والحمراء الّتي لمعتْ عن بُعدِ ثلاثمائة متر كان قوياً على نبضاتِ قلبه، فبدأتْ تتسارعُ مع ازديادِ نسبة الأدرينالين في جسده.أمّا ظهور رجل الأمن وهو يلوّحُ بشاخصةِ قف، ويشيرُ إليه أن يصطف إلى اليمين، كان كافياً ليزداد ارتباكه، ويلقي “المنقوشةَ” من يده، ويمسحُ وجهَه بكمِّ قميصه ليخفي آثارَ الزعتر عن فمِه ..وهو يُردّدُ مُذكّراً إياها بالوعدِ الّذي قطعته:

  • أنتِ أمي ياحجة .. لا تنسي ذلك!

فهزّتْ رأسَها، وهي تُردّدُ بصوتٍ حازم:

  • –      “وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ” .. توكل على الله يا ابني.

قبل أن يفتح نافذة السيّارة، رسمَ على وجهِه ابتسامةً صفراء، غيرَ عابئٍ للزعتر العالق بين أسنانه، وهو يلقي تحيّةَ الصباح. لكنَّ الشرطي الّذي لوّحتْ الشمسُ بشرتَه البرونزيّة فزادتها سُمرة، ردّ التحيّةَ بإيماءةٍ من رأسِه. و باقتضابٍ شديدٍ، طلبَ رخصةَ القيادة والتصريح. حاولّ سائقُ التاكسي أنْ يبلعَ ريقه ليُرطّب حلقه الجاف، لكنْ دون جدوى. وكان لانشغالِه بالبحثِ عن الرخصةِ ومناولته إياها سبباً يمنعه من التلعثمِ، وهو يُتمتمُ قائلاً:

  • هذه الرخصةُياسيّدي. ولا أعتقدُ أنني بحاجةٍ لتصريحٍ لتوصيل أُمّي إلى عمّان.

لم تخفَ عليه نصفُ الابتسامةِ الّتي ارتسمتْ على شفتي الشرطي، عندما انحنى بظهره إلى الأمامِ حتّى يتسنى له النظر إلى وجهِ العجوز جيداً، ويقول:

  • يا صباح الخير .. هل صحيحٌ ما يقوله هذا الرجل ياحجّة؟ هل أنتِ أُمّه؟

التفتَ سائقُ التاكسي إليها في نظرةِ رجاءٍ، وهمسَ قائلاً:

  • قولي شيئاً ياأُمّي .. ما بكِ صامتة؟

لكنّها فاجأته بضحكةٍ مكبوتةٍ من تحتِ وشاحها الأسود الّذي غطّتْ فمها ببعضه. شعرَ بالدمِّ يندفعُ نحوَ وجهه، وحاولَ أنْ يكتم نبرةَ الغيظِ في صوتِه بينما عيناه تقدحان شرراً، وهو يُكررُ قائلاً:

  • ياحجّة! .. ألستِ أُمّي؟

ولشدّةِ دهشتهِ لم يكنْ ثمّةَ استجابةٍ من العجوزِ سوى هزّاتٍ خفيفةٍ من كتفيها، وصوتُ ضحكتِها المكتومة والّتي بدأتْ تعلو شيئاً فشيئاً. وزادَتْه حيرةً نظرةُ الشرطّي العابثة، وابتسامته الّتي ازدادتْ اتساعاً، وهو يسألُها بنبرةٍ ساخرة:

  • لماذا لا تجاوبين ياحجّة؟ هل أنتِ أُمّه؟

بدأتْ وخزاتُ الندمِ تنهشُ ضميرَه .. خصوصاً بعد أن تراءتْ له أخرُ مخالفةٍ مروريةٍ حصل عليها بسببِ عدم حيازته لتصريح، ومخالفةٌ أخرى هي أخرُ ما يتمناه بعد أن أثقلتْ كاهِلَه الديونُ المتراكمة. كلماتُ العجوزِ الّتي تفوهتْ بها أخيراً من بين ضحكاتِها المُستفزّة كانت صفعةً حقيقيةً له .. حيثُ فغرَ فاهَه دهشةً وهو يستمعُ إليها تخاطبُ الشرطي، مُهدّدة:

سأغضبُ عليكَ إنْ قُمتَ بمخالفتِه يمّة يامحمود!

بقلم:

صفاء فارس الطحاينة

المزيد من اعمالها

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: