قلقٌ جامح / صفاء الطحاينه

مع بدء جائحة (كورونا) وتعطيل الدوام داخل المدارس في المملكة، تصاعدت رغبتي في ممارسة هوايتي التي نالت مؤخراً من الإهمال ما نالته، وبلغت من النأي تيهاً .

“أتوق للكتابة بشدّة، فلِمَ لمْ يأتني الإلهام حتى الآن؟ لماذا تأخذُ ريشتي مني موقفاً في ظلِّ الظروف الراهنة متجاهلةً رغبتي الملّحة في الرسم؟ الكُتّاب يعبّرون عن رأيهم في هذا الوباء بقصصٍ مؤثرة، والفنانون يبثون مكنوناتهم بأساليب مختلفة. إلاي! فشلتُ في كتابةِ قصةً يتيمةً! وأخفقتُ في الرسم على لوحةٍ أُحاكي بها مرارة الواقع!

مهمومةٌ أنا، ومستاءةٌ جداً،  وحاقدةٌ على قلمي الّذي خانني في أحلك الظروف! وبعد أن كان جُلّ همّي عدم توفر الوقت، أصبحَتُ أكابد معضلتي مع الإلهام.”

وفّرتُ لنفسي الأجواءَ الخاصةَ بالرسمِ والكتابة، المُشجّعة في العادة، من أوراقٍ وأقلامٍ، ودفاترٍ للرسمِ وألوانٍ. فنجانٍ من القهوةِ السادة، وقطعة شوكولاتة غامقة، و (أنت عمري) لأم كلثوم .. لكن دون جدوى!

أجهضتُ بنت عقلي، فلم تلد من رحمها فِكرة!

شربتُ قهوتي وتلذذتُ بالشوكولاتة، واستمتعتُ بموسيقاي المفضلة دون أن أدوّن حرفاً، أو أطرّز خطّاً.

تأكلني ذاتي، وينهشني ضميري مؤنباً لإضاعة كل هذا الوقت، وكأنني أرفس النعمة بعدم استغلالي لهذه اللحظات الثمينة!

أستسلم لليأس حيناً،  وأغرق في عدم الاكتراث أحيان. أحاول أن أكره الرسم، و أمزق أوراقاً قديمة . أُعزّي نفسي بأنّها خربشات لا تستحق الاهتمام. وكلما اجتاحتني مشاعرُ الحنين للكتابة، مزقتُ أوراقاً أكثر.

أهربُ من ذاتي. أُمثلُ دور المستمتعة بالحجر المنزلي. أجلسُ مع أمي لتبادل الحديث. لكن الحكايات تنتهي بسرعة. أُمّي تُماري ابنتي ذات الثلاثة عشر عاماً ثُمّ تُشغل نفسها بلَعبِ الورق مع أخيها التوأم. بينما أُسرّي عن نفسي بمتابعةِ مسلسلٍ تُركيٍّ على جهازِ (اللابتوب)، فالتلفاز مشغول على مدار ٢٤ساعة بأخبار الكورونا.

مجرد التفكير في التقليب بين القنوات غير وارد إطلاقاً ..

لست من عشاق المسلسلات. لقد مضى وقت طويل منذ أخر فلم شاهدته. لكن ليس هناك ما أفعله هذه الأيام سوى المشاهدة .. أو قراءة الروايات. هذا لو كنت في منزلي وبين كتبي! لكنّ إجازتي التي ظننتُها أسبوعين حرمتني من متعة القراءة أيضاً!

هذه الأيام الأربعة عشر، التي طالت وامتدت وتشعبت إلى اثنين وأربعين يوماً بلياليها، وستطول إلى أجلٍ غير مُسمّى، سببٌ في مكوثي بعيداً عن مكتبتي الصغيرة ومرسمي، وسببٌ للغرق في بحرٍ من الاشتياق!

تعود أختي من عملها الساعة الخامسة كل مساء. ننتظر عودتها بفارغ الصبر. فاللحظات الأولى لدخولها إلى المنزل مُسلّية. نستقبلها بصرخاتٍ تحذيرية أن تغتسل وتُعقم يديها. تتلوها ضحكات هوجاء وهي تلوّح بيديها في الهواء، وكأنها تنفض عنها الكوفيد 19.

تُغيظنا بزيارتها الخاطفة لمنزل أخي أثناء عودتها. تُخبِرُنا عن طفله الصغير الذي أشبَعَتْه حُبّاً وتقبيلاً. فنشتهي احتضانَه بحسرةِ المشتاق. تغتسلُ وتبدّلُ ثيابَها. تتمددُ على الأريكةِ وكأنّها قطة تتمطط بكسل. أحياناً تتسللُ إلى المطبخ لتسرق ساعةً تنفثُ فيها من نارجيلتها خفيةً عن أمي. أُشاركُها الجريمةَ بمتعةٍ كبيرة! تضحكُ كلّما سَعَلتْ. رئتي الصغيرة ليست معتادة على كل هذا الدخان الكثيف. نتبادلُ النظراتَ البلهاء ونضحك. نُوْلِي النميمةً شذراً من الوقت. ثم نعود حيث أمي، وكأن شيئاً لم يكن!

أحياناً تمسك هاتفها النقال وتغطس في مواقع التواصل الاجتماعي، الفيسبوك تارة والواتساب تارة أخرى.

ليست وحدها، كلّنا تستحوذنا هواتفنا النقالة، فنتشبث بها مرغمين وكأنّها سلبت عقولنا.

فجأة، تصدر منها ضحكةٌ خافتة. تنتقل عدوى الضحك إلينا. ترفع رأسها وتخبرنا بموقفٍ حصل معها أثناء الدوام تذكرته. “حتى المصاب بالتحسس الموسمي يشكُّ في نفسه، فيأتي للوزارة لإجراء فحص الكورونا بدل الذهاب إلى المستشفى أو المختبرات الطبية”

تضحكُ ونشاركُها الضحك. وتتكررُ المواقفُ وتتكررُ الضحكات. فتمَلُّ أختي من ذكرِها، ونملُّ من مشاركتِها الضحك.

اعتلى وجهها وجومٌ ذاتَ يومٍ، جعلنا نتساءل. “لقد أُخضِعتُ للفحصِ هذا الصباح”

لحظاتُ الصمتِ الّتي تلتْ كلماتها، شقّت عنانَ الأفكار الهائجة، وابتلعتْ رطوبة المشاعر المكلومة، ليتراءى طفلُ أخي الصغير وهي تضمّه إلى صدرها كمن تنتزعه من حضنِ أمه لتلقي به بين براثن الخطر!

“أنتظرُ النتيجةَ غداً ..

وبقلقٍ جامحٍ، كُلّنا انتظرنا!

المزيد من اعمالها

Read more

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ندامة الكسعي - مما اعجبني

ندامة الكسعي – مما اعجبني

استخدم العرب تشبيه "ندامة الكسعي" لوصف أسوأ حال يصل إليه المرء عند الندم، وتأتي القصة لرجل كان يرعى إبله في البر فرأى شجيرة يصلح خشبها للسهام فسقاه

%d bloggers like this: