جذور لا تبرح مكانها / صفاء الطحاينة

من نافذةِ الغرفةِ المفتوحةِ على مصراعيها .. تقتحمُ خَلوتَها هبّاتُ هواءٍ باردة .. فتتبعثرُ الأوراقُ متطايرةً عن المكتبِ إلى الأرضِ .. تفكّـرُ أن تُلملمها، لكن تعدلُ عن فكرتها، وتكتفي باستلال أوراقٍ غيرها من حقيبتها .. بصوتٍ غاضبٍ تتوعدُ النافذةَ، وفي سرِّها تشتمُ الأوراقَ. تحتضنُ القلمَ بحنانٍ، وتكتب: من المنفى، إلى الأحبّـةِ في الوطن! والأحبّـة أينما كانوا وطن!

يُرافقها الضجر إلى غرفة المعيشة .. تحدّق في ساعةِ الحائط .. تك تك .. تك تك .. والعقارب الملعونة لا تتزحزح .. صوتُ التكتكة يحفرُ في رأسِها فجوة .. لا يردمها إلا الصداع .. ودون أن تبرح كرسيّها .. تتخذ قراراً بتغيير البطارية في الغد، وهي تبتسم بتحدٍّ.

تنضمُّ إلى مائدة الطعام عشيّـاً، تبدو مبتهجةً برفقةِ صحنهـا البشوش .. تمضغُ طعامَهـا بهدوءٍ، وتلعقُ إصبعيها بشهيّة. “لذّة الطعام لن تكتمل دون القليل من الملح.” تفكر، وهي تنظر إلى المملحة على الرفِّ العلوي، كعروسٍ خجلى في ليلةِ زفافها .. تشيرُ لها أن تترك حياءها جانباً وتتقدّم نحوها .. ثُمّ تضحك.تبتلعُ ضحكتها فجأةً، وهي تُتمتم بعبارةٍ محفورةٍ في ذاكرتِها:”ما أكلته وأنت تشْتَهيهِ فقد أكلتَـهُ؛ وما أكلتَـهُ وأنت لا تَشْتَهِيهِ فقد أكلكَ” .. ثُمّ تعودُ إلى مضغِ طعامِها بهدوءٍ.

بين جدران غرفتها متأففةٌ، تقلّبُ الفساتينَ في خِزانتِها وهي جالسة “هذا لم يعد يناسبني! وهذا بهت لونه! وهذا أيضاً” تقرّرُ أن تتخلّص منها وتستبدلها بفساتين جديدة .. وفي قرارةِ نفسها تعلم أنَّها لن تفعل .. فكلامُ الليلِ يمحوهُ النهار! تغلقُ على فساتينها بابَ الخزانة، وتتثاءبُ بكسل.

بين تلك الليلة وضحاها، ترتبُ الفواصلَ والنقاطَ وتلملمُ التراكيبَ المبعثرة .. تُـكملُ قصيدتَها بعلامةِ تعجبٍ وتنظمُ قوافيها .. تُنهي رسالتَها بسؤالٍ وتجمعُ شتاتَها .. تُـنجزُ أعمالَ المنزلِ اليومية .. تكنسُ الأرضَ، وتنفضُ الغبارَ .. تُغيّـرُ عقاربَ الساعةِ، وتُجدّدُ البطاريات .. تدسُّ المملحةَ في جيبِها .. تُهدي صديقاتها الفقيرات فساتينها الحبيبة .. دون أن تبرح سريرها الأبيض حيث يتمدّدُ جسدُها النحيل بنصفه الخائر .. وعيناها متسمرتان في كُرسيّها المتحرك.

بقلم صفاء الطحاينة

 

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ندامة الكسعي - مما اعجبني

ندامة الكسعي – مما اعجبني

استخدم العرب تشبيه "ندامة الكسعي" لوصف أسوأ حال يصل إليه المرء عند الندم، وتأتي القصة لرجل كان يرعى إبله في البر فرأى شجيرة يصلح خشبها للسهام فسقاه

%d bloggers like this: