الحلقة الخامسة بعنوان” الأدعياء” بقلم انعام القرشي

كنت أجلس إلى جانبه في سيارة التاكسي. كانت سيارتي تقف بانتظاري في أحد مراكز الصيانة بالمنطقة الصناعية. لقد كانت تعاني من مشاكل في المفاصل، بسبب خلل فنّي في عقلها الالكتروني.
شعرت للوهلة الأولى أنني أجلس في غرفة تحقيق متنقّلة. لقد كان السائق يسألني عن كل ما يخطر و ما لا يخطر في بالي.. ثم صمت قليلاً.. وقبل أن يعود لاستجوابي من جديد، فتح زجاج النافذة، وبصق في وجه الهواء.
الأشجار، والأعمدة، والمباني، جميعها كانت تعود إلى الوراء بسرعة، في حين كنت أشكّ بأنني سأصل إلى هدفي في الوقت المحدد. هذه لعبة غير مسلية. ولكن، من قال أن الحياة نفسها لم تعد كذلك!!
لقد حاول السائق الكهل، أن يثبت لي، وبشتّى السبل، أنه محيطٌ بكلّ شيء:
الصيانة، الطب، التجارة، الحب، السياسة، الأدب، الإدارة، الحرب.. وغيرها الكثير…
كنت أهزّ رأسي مبتسماً وأنا أستمع إليه بأذنٍ واحدة.
في نقطة ما، كان هنالك ازدحام خانق، فعلّق قائلاً كما كنت أتوقع: لا بد أن هنالك شرطياً يقف على ذلك التقاطع. وعندما اقتربنا أكثر، كان هناك بالفعل احد رجال المرور، ينظّم حركة السير بنشاط ملحوظ. حينها، تساءل “جاري المؤقت” بسخرية: ألم أقل لك: الشرطي هو الذي افتعل هذه الأزمة. أنظر إلى وجهه، إنه يبتسم، وهو يحرّك كل شيء من حوله، بإشارة من يده. 
لم أعرف ماذا أفعل.. قلت في نفسي: ما هذا؟! كيف ينظر البعض إلى مثل هذه الأمور بالمقلوب؟ لقد ارتبطت الأزمة في ذهنه بوجود الشرطة، وهذا أمر طبيعي، فحيثما تكون هنالك أزمة سير يكون هنالك شرطيٌّ لكي يتعامل معها. لكن هذا الرجل، قلب الصورة، وجعل الشرطي هو سبب وجود الأزمة، وليس العكس كما هو في حقيقة الأمر!!
لطالما كنت على يقين، بأن جميع الأزمات التي نعاني منها، إنما تعود في الأساس، إلى أزمة واحدة عميقة ومتجذّرة، الا وهي ازمة التفكير.
لا شعورياً، وجّهت أصبعي إلى رأسي.. وحمدت الله أنه ما يزال في مكانه، أعني: رأسي. 
ثم قلت في نفسي: الأزمة هنا..!!
في الواقع، لقد اصطدمت بأحد الأدعياء الذين أكاد أواجههم في كل مكان. إنه نموذج آدمي حي ومؤثر، ومنتشر بين الفئات الإجتماعية كافةً، بسبب الوعي السالب، أو الجهل المطبق، أو العدوى المتفشّية.
هذا السائق الذي من المفترض أن يكون سفيراً جوالاً داخل بلده، و مفوّضا – ضمنياً- بأن يعكس في عيون الآخرين، ولا سيما الغرباء، أفضل وأجمل ما فيه.
سألني بلا مقدمات: ما رأيك في “صفقة القرن”؟
ولم ينتظر مني الجواب، فقد بدأ يتحدّث بإسهاب عن تلك الصفقة التي شبّهها بصفعة قوية على خد الأمة العربية. 
قال بأنّ الدنيا باتت أشبه بسيارة تكسي مسرعة، يقودها سائقٌ مخمور، على منحدر جبل الزهور. 
أشارت فتاة تقف على الرصيف بيدها. قدّرت أنه شعر بالندم لأنه لم يكن “فارغاً”.
في حين داهمني شعور آخر أقوى، بأني أستقل سيارةً فارغة!!
ثم توقّف فجأةً. نظر إلى الخلف وهو يقول لي – مستأذناً- بصوت كسير: مسكينة، إنها تقف وحيدة تحت أشعة الشمس الحارقة. هل تسمح لي باصطحابها، وبدون إحراج؟
حينما وجدني صامتاً، فسّر ذلك كما يحلو له، فدعاها إلى الركوب، لكنها رفضت بشدّة، فكفتني شر القتال، على جبهة الرفض. بينما حمّلني هو بعينيه المسؤولية الكاملة عن شعوره بالخذلان، وبأثرٍ رجعيّ. ثم أنطلق مسرعاً، بمزاج مختلف، ووجه آخر.. بدا لي وكأنه يسير إلى الأمام، وهو ينظر إلى الخلف.
لقد كان يحاسبني بصمته المقيت على ما فعلت يداه. هنالك من يقترفون بحقّنا مثل هذا الفعل المشين، ثم يوجهون إلينا أصابع الاتهام، وكأننا نحن الذين سرقنا أحلامنا منّا، وأحرقناها بأيدهم. 
لكن، من حسن حظّي وسوئه في الوقت نفسه، أنه عاد ليكلّمني عن زوجته الثانية، الشابة، التي عادت به – على خط الزمن- عشر سنواتٍ إلى الوراء.
غير أني لم أكن أرى ذلك في عينيه الغائرتين.. ولم أتوقع بأنه كان يطرد بهما عن نفسه الحسد.
الغريب أنه ألحّ عليّ لكي أصدّق بأن قيادة “التاكسي” في شوارع عمان، هي أصعب من قيادة دراجة هوائية على حبل مشدود، فوق رؤوس المتفرجين المشدوهين داخل السيرك. 
وفي جملةٍ اعتراضية، قال متهكماً: “حمدي الفرّان” ليس أشطر مني.. أنا أفهم أكثر منه، في السياسة، والفن، والحب، وحتى في الخبز. 
أعرف أن هنالك سائقين لطفاء وطيّبين، ولكن، يبدو أن الحظّ أبى أن يبتسم لي في ذلك اليوم، الذي بدأ بعطل مفاجىء في سيارتي، وخشيت أن لا ينتهي إلا بأزمة حادة في قلبي الذي تعب من كثرة ما يحيط به من إكراهات.
ثم أخذ “الرفيق الإجباري” يحدثني عن الرجل الأعمى الذي أوصله إلى بيته في إحدى الليالي الماطرة، بينما كان يصف له الطريق إلى هناك وكأنه يراه.
كنت أودّ أن أقول: هذا ليس أحد التطبيقات الذكية على أيّ حال، بل إنه عملٌ من أعمال القلب. 
لكنني أحسست عندها، أنه قال شيئاً ذا مغزى.. فسألته: ترى، هل هو أعمى منذ الولادة؟
فأجابني على الفور: نعم صحيح. ورغم ذلك، فقد أنجب نصف دزّينة من الأولاد والبنات.
للمرة الأولى، حاولت أن أضحك ولكني لم أستطع.. فلا أحد منا ينجب الأطفال بعينيه. كان المذيع في الراديو يتحدّث عن مقتل العشرات من المدنيين جرّاء القصف الوحشيّ على غوطة دمشق الشرقيّة. أعقب ذلك كلامٌ خارج السياق، لأحد المحللين السياسيين الذين أصبح عددهم يفوق عدد المتسوّلين المجنّدين عند الإشارات الضوئية، على كثرتهم. 
صبّ السائق الأخرق جام غضبه على هيئة الأمم المتحدة، وجعل يشتم بهذا الطرف وذاك دونما حساب..
ثم أخرج زجاجة ماء، من غامض علم الله، وشرب نصفها، قبل أن يصبّ ما تبقّى فيها فوق رأسه، وهو يزمجر من شدّة الغضب.
ودون سابق إنذار، أطلق مجموعةً من النكات الفاضحة، بينما كان يضحك وحده دون انقطاع..
كان من الواضح أنه بات يشعر بالزّهو، فيما كنت أشفق عليه وعلى نفسي، من وجودنا في مكانٍ واحد، ولكن، تحت اعتبارين مختلفين.
وفجأةً أخبرني وهو ينظر في مرآة السيارة الوسطى، قائلاً: قبل عدّة أيام، طلّق أحدهم زوجته في الكرسيّ الخلفي، لأنها قالت له فقط ثلاث كلمات: حماتي دمّرتْ حياتي.
لو كنت في مكانه، لصفعتها صفعةً على خديها الاثنين، ثم حبستها في الحمّام ثلاثة أيام متتالية. لكني مع الأسف، كنت أجلس هنا، في مقعدي خلف المقود. ونزولاً عند رغبتها، أنزلتها على هامش الطريق إلى “الجحيم”.. وأوصلت زوجها السابق إلى حيث يمكنه أن يتفنن في الكذب على من يصدّقه من رفاق النفاق. 
انتبه يا أستاذ – قال لي- العالم يعجّ بالوحوش البشرية. لقد بتنا نعيش في غابةٍ بلا أشجار. زوج ابنة أخي -الحيوان- لا يكاد يكلّمها إلا بيديه.. وأحياناً بقدميه.
إنها امرأةٌ مغلوبةٌ على أمرها، كما أنا مغلوبٌ على هذا العداد البخيل. 
مرةً أخرى، ألجمني صوته المشحون بطاقةٍ سلبيةٍ متأججه، فلم أعرف ماذا أقول..!!
لكنّ سكوتي شجعّه على توريد المزيد من “سواليف الحصيدة” .. والتندر بالعديد من الادعاءات الفاقعة..
ثم بدأ يعبث بمفتاح الراديو، حتى حصل على ما يريد:
أغنية عاطفية، سرعان ما جعل منها خلفيةً صوتية غير ملائمة لحديثه عن توليد الطاقة الكهربائية بواسطة حرق جفت الزيتون. 
وسرعان ما أدّعى بأنه كان بطلاً في الملاكمة، قبل أن يعدّد ويشرح لي الأخطاء السياسية المدمّرة التي وقع فيها “ترامب” في الآونة الأخيرة.
ثم علّق ساخراً: هذا الرجل مجنون، لكنه مسلٍّ. بالمناسبة، أمريكا ظلمتنا جميعاً. أتمنى أن أحصل على تأشيرة سفر إلى هناك، حتى أوضّح للامريكان الأخطاء التي ارتكبوها بحقّ الشعبين المضطهدين: الهنود الحمر، ونحن العرب.
لولا ذلك يا صاحبي، لكنّا مرتاحي البال، وربما اكتشفت انت الذرّة، واخترعت أنا سيارةً تمشي على الماء. 
متى سنصل؟ سألت بلا صوت، وأنا أتنفّس بصعوبة.. فبادرني هو بسؤالٍ آخر:
هل تريد أن أدلّك على أحسن ميكانيكي في البلد؟
أجبته بهدوء: في المرّة القادمة، الآن تم إصلاح العطل.
رفع حاجبيه قائلاً: إذن، خذ اسمي ورقم تلفوني: (أبو السعد.. سبعة أصفار).
كان عليّ حينها أن أبتسم بالفعل.. لقد وصلنا أخيراً إلى ما كنت أشعر بأنها نهاية العالم.
نظرت إلى شاشة العدّاد الصغيرة، فلم تكن الأرقام واضحة، فسألته: كم المبلغ المطلوب؟
أجابني بصوتٍ منخفض: “خليّها علينا”. فكّرت أن أختبره، فأنزل من السيارة دون أن أدفع النقود، لكني سرعان ما قلت لنفسي: هل أنت مجنون؟!
دفعت إليه ما طلبه رغم قناعتي بأنّ المبلغ المستحقّ أقل مما أعطيته بكثير، لكني حمدت الله على أن ذلك كان هو الادّعاء الأخير. 🤩🤣😅

“مواطن عربي”

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

لو انك جارُنا … انعام القرشي

اشتقت لك جارنا، هذا المطر والبرد، حال دون ان اراك منذ مدة طويلة، لذلك احب أن تطمئن 😂 لقد عدت...! اهم بالمغادرة لشراء بعض الأشياء، لكنني اشعر بالدفء ولا رغبة لي بترك المكان او

%d bloggers like this: