“ثرثرة” برفقة جبل قاسيون .. انعام القرشي

اذكر يوم ان جلسنا لنتناول الإفطار كيف كان يكثر من التبسم لي وأنا اروي القصة تلو القصة، وبغفلة منه ارتجفت يده و اندلقت كاسة الشاي مشوهة بياض الشرشف ببقع الشاي الأحمر…
نهضت من فوري و صببت له كاسة اخرى من دون جلبة، توقفت عن الكلام و النظر اليه، واكتفيت بالمنظر امامي على مد البصر الى جبل قاسيون ، حتى انتهينا….

للحظات شعرت بالألم، هل هو العجز ام الإرتجاج، ام الحركة اللاارادية، ام المحاولة لإعادة بعض القدرة على المشاركة في الجلسة والحديث…؟
كانت عيونه ترسل اشارات اعتذار، وعتب، على هذا العمر الذي يبسط هامته على كامل جسده في الوقت الحرج، يهزه، يوقظه ان ساعة الإستسلام قد حانت رغما عنك، ويذكرك انك لن تستطيع ان تمارس طقوس الحياة كما كنت، ولأنك انسان لاتحب الإنكسار، فإنك لا تيأس وتداوم على المحاولة.
ارفع الصحون والكاسات الى المجلى، اقف مبتسمة و انظر اليه بفرح
– سعيدة بهذا الإفطار الدمشقي وهذه الصحبة الرائعة لجبل قاسيون ،
تحاول ان ترد، تشير برأسك ان اقترب… وادنو
– انت انسانة خفيفة الظل
اضحك واحضن كفه المنكمشة عروقها والتي تكاد تختنق بين يدي
– اشعرتني بالغرور دكتور
ثم تطلب مني ان ننقل الجلسة الى البلكونة لأرى زهر الياسمين، وان نترك غسل الصحون لسيدة البيت مع غمزة من عين تهدلت تحتها الجفون ،
….اضحك وارد:
هل من المعقول يا دكتور، اتريد ان تعاقبها ههههه؟
تشير لي بيدك ان لا تشغلي بالك، احوم حولك وارفض الفكرة او الجلوس محاولة ان انتهي من غسل الأطباق…
تقول: لقد حان موعدها، قهوة لا تشرب الا ونحن نراقب هذا الجبل الشامخ امامنا… اتعلمين..! كنت اراقبة منذ كنت طفلاً صغيراً، وها انا انحني شيخاً وما يزال شامخاً… واغرورقت عيناه.. صفقت بيدي بحركة مرحة لأبعد عنه الحزن وقلت: يا الله حظيت “بشيخين شامخين” واخذ يمسد شعره ضاحك العينين…
من قال ان لغة الجسد ليست ساحرة فقد اخطأ …!
تعدل من جلستك لتقترب مني، فأعرف انك ستبوح لي بسر…!
– هل تعلمين ان هناك في قمة جبل قاسيون شارع للعشاق فقط…!
– اها…. اتفاجأ وافغر فاهي واقول: جميل والله جميل… ثم سألتني سؤال لم اتوقعه..!
– ما اسم رجلكِ؟
ارفع يدي، اترى ..؟ لا محبس في اصابعي، ” بح ما في مريحه راسي” ترفع حاجبك الكثيف واقرأ الصدمة على وجهك، تلقي بنظارتك وتشير بيدك في حركة لولبية وافهم منها : لماذا؟؟؟
اجيبك بكل صراحة ومن دون ان افكر…
لم يكن لدي الوقت لأفكر بهذا الأمر… ! تضحك من اعماقك واشاركك الضحك وانا اجلس على حافة البرندة، ورأيتك تنهض بصعوبة وتمسك بذراعي، وادركت انني كنت على قاب قوسين من ان اسقط من الطابق الثالث الى الشارع،
جفلتَ، ركزتُ في بؤبؤ عينيك التي كانت تتحرك بسرعة، ووضعتَ يدك فوق قلبك، فعرفت انني آلمتك وحزنت، طلبت مني ان اجلس كي تجس نبضي،
اعود واضحك: لا فائدة ما زلت تمارس الطب حتى هذه اللحظة… لا تخف انا سعيدة لخوفك
تهمس لي : مشاكسة
– وانت دكتور؟ لم لا تحدثني عن ذكرياتك، هنا في الشام كل شيء مختلف..
– كيف احدثك عن ذكرياتي وانت تقفين امامي..؟ لن اتجرأ ان اقول كلمة واحدة وغرق بالضحك
– هل هذا غزل؟ هههههههه، انا مغادرة بعد بضعة ايام
– وان يكن…..وهربت من الجواب بسؤالك: اين القهوة؟
– في الطريق …
جاء الصوت من المطبخ، وكانت تحمل ثلاثة فناجين من القهوة المحروقة بدون سكر فوق صينية ملونة كمن يقبل على الحياة من جديد…
– اهلا ام سند، كنت بسيرتك مع احلام..!
– نظرت اليه وانا “افنقل” عيوني، لكنه وضع اصبعه فوق فمه بإشارة ان اسكت، وابتسم
جلسنا ثلاثتنا برفقة جبل قاسيون نتحدث حديثاً شجياً، وعندما تتحدث زوجته كان يسرق غفوة لتتجدد فيه الهمة، فتلمس كفه ليصحو،
كنت قليلة الكلام اخزن في ذاكرتي عبق ام حزن لا ادري المهم انها خطوط حياة طويلة وانا اتابع حركة كفها التي تتشبث بكفه، اسألها بحرج:
هل ما زلت تحبينه؟
ترفع يدها الى اذنها الذابلة وتحرك قرطها اللؤلؤي المتدلي بخجل حتى انني رأيت رؤوس خديها قد توردت ثم قالت:
نحن لا نقول مثل هذا الكلام…!
– ماذا تقولين؟
– اُكثر من النظر في عينيه، واُمسك كفه واتحسس شرايينه التي تنقل الي نبضه، هذه هي موازين الحب بيننا
– لكنني حضنت كفه قبل قليل ولم اشعر انه شعر بشيء، واصابني القلق؟
– ضحكت، ارأيت…! انت لا تستطيعين ان تدركي متى يمكن ان ينعكس هذا الود على نفسيته، قد يكون بعد رحيلك…! او ربما في صباحات قادمة تحمل حباً ، تلك المشاعر لا تشوبها روائح الشهوة، انها حقيقية، يشعر بها الإنسان خلال غفوة مريحة، ابتسامة طيبة، وربما يتذكرها في لحظات التجلي وهو يرتب قوارير الورد على حافة نافذة غرفة نومه..
هذا العمر يتحول من دون ان نعلم الى عالم من سلام، كيف؟ لا احد يستطيع ان يفكك هذا التحول انه الإنسان، في سكونه يدخل ثورة مخبأة بغلاف الكون ، هو خارج كل ما كان هناك، وملتحم مع ارق نسمات قادمة من جبل قاسيون عبر زهر الياسمين لتعيد اليه اياما كانت رونقاً لحياته…!

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: