الحلقة الثانية بعنوان: ملامح سوداء في وجهٍ أبيض -بقلم الاديبة انعام القرشي

يقف المجتمع العربي في كلّ يومٍ، أمام مرآة الحياة، كماردٍ متقاعد، لكنه وللأسف، قلّما يرى الملامح الشاذّة في وجهه الملوّح بشمس الأمس، وكأنه واقفٌ خلف تلك المرآة.
إن أوّل ما سأبدأ به، هو آخر ما لمسته بأصابعي، وهو ملمح (التسقّط): فكم يستفزّني ذلك البحث الدائم والمحموم عن الإثارة، والاستثمار الآثم في العلاقة غير الشرعية بينها وبين الخداع.
وكأنّ الدنيا قد انقلبت إلى قاعة عرضٍ كبرى.. وكأنّ العالم قد استحال إلى فيلمٍ فضائحيٍّ طويل..!!
فيلم يمكن مشاهدته بإحدى التذكرتين: المبالاة، واللامبالاة.
كانت الغريزة تسبح في بحر الهوى، ثم خرجتْ كي تتمشّى بالمايوه الأحمر على الرمال، قبل أن يفلت المخرج المتمرّد، من كهف لا شعورنا الجمعي، ليقنعها بأن تلعب دور البطولة في ذلك الفيلم المثير، أمام ممثلٍ جريءٍ وجامحٍ، يُدعى الخيال الجارح.
وفي مثل هذه الأجواء المشحونة، تختفي الحقائق، وتختنق، وسط الدخان الأسود الذي يتطاير من نيران التضخيم، والتهويل، والمغالاة.
ترى، لماذا يصرّ الكثيرون منا، على تفعيل عوامل التعرية الجوّانية، إلى أعلى درجةٍ في سلّم الهوس النفساني؟!
أتراهم يحاولون الاختباء وراء عيونهم، أم ” أمام ” عيوب سواهم ؟!
مِن حقّنا أن نبحث عن الدهشة، ولكن، ليس عبر آلية تتبّع عورات الآخرين، وفضح أسرارهم، ونضحها من بئر الكتمان.
فالدهشة موجودةٌ ؛ في الفنّ، والشعر، والحبّ، والبحر، والسماء، والورد، والفكر…
ولا نحتاج إلى أن نُقسم بأنّ هذه هي الحقيقة الساطعة التي تشرق في كلّ يومٍ علينا كالشمس.
أما بعد،، فماذا يمكننا أن نقول عن الملمح الثاني؟
إنه مظهرٌ محبطٌ ومحيّر ، لبؤرةٍ سوداء اسمها: (عقدة الشعور بالنقص):
فهذا النوع من الشعور ، له مجراه السيكولوجي الطبيعي والمعتاد. وهو – من حيث المبدأ- يعمل بنشاطٍ منقطع النظير، كمحفّزٍ حيويٍّ فاعلٍ على التغيير.
في حين أنّ الكمال، يبقى مجرّد “مثال”.
ولكن، عندما يتحوّل هذا الشعور – بالتراكم – إلى عقدةٍ نفسيةٍ كأداء، فحينها، لا يملك المرء إلا أن يرضخ لسلطة “الورطة” التي وضع نفسه فيها وهو يراوح بين قطبي القصد واللاقصد. ذلك أن هذه العقدة، هي أشبه ما تكون بمصيدةٍ داخلية، توقع بالدوافع الإيجابية، وتمنعها من العمل بكفاءةٍ وفعالية.
هذا الصنف من العُقد المركّبة، يُعتبر الأكثر توليداً للطاقة السلبية.
ومن يخضع لتأثير مثل هذه الحالة، غالباً ما يتمترس خلف إصراره العجيب على التقليل من شأن الآخرين، بل وسحبهم إلى الأسفل، كما يفعل الغريق -عن جهل- بكل من يحاول إنقاذه.
أرجوك أيها القارىء، عُدْ قليلاً إلى الوراء، حتى تسمح للمعاني التي تحلّق في فضاء الذهن، بأن تمرّ من أمام عينيك مثل طيور الحمام، كما مرّت من خلفهما من قبل بسلام.
أما ثالث الملامح السالبة، فهو يعكس المنحى المتنامي لما هو شائعٌ بيننا حول ما يُدعى: ( ثقافة التبرير): فالعجز، والفشل، والإحباط، كلها أفواهٌ مفتوحة ومهيأة لالتهام أكبر قدرٍ ممكنٍ من أقراص المبرّرات.. ذلك أن نجاح شخصٍ مجتهد، في الظروف نفسها التي فشل فيها شخصٌ اتكاليّ، يعني بالضرورة، سقوط الحجج الواهية، التي يتعلّل بها الأخير لتبرير حالة الإخفاق المستمرّ.
وأما الملمح الرابع فهو ( الفراغ ): والمقصود هنا: الفراغ بشقيّه: الداخلي والخارجي. فلا يوجد في واقع الحال، ما ينهمك به الناس من مشاريع فرديةٍ أو جماعيةٍ تستنفد طاقاتهم المختزنة، وتشغلهم بما يعنيهم عن الانغماس في أوحال الاشتغال ببعضهم بعضاً.
وفي ظلّ غياب المنجزات الفعلية، تتراجع نسبة رضاهم عن أنفسهم، ويفقدون الدافع الحقيقي، للسعي من أجل إحراز المزيد من النجاح. مما يعمّق شعورهم بالفراغ، فيصطدمون بأنفسهم في حيزٍ نظريٍّ مشغولٍ بظلام الأوهام، قبل أن يشتبكوا مع الآخرين، في نقاط سوداء، داخل حدود “المناطق المحرّمة”.
حينما كنت أفكّر في ذلك بالأمس، مرّ متسولٌ أعرج، وطرق باب خيالي..
أعطيته آخر دينارٍ في جيبي، ورجوت الله أن لا يأتي بعده متسولٌ آخر، حتى لا أضطر لأن أضع في يده، حفنةً صغيرةً من مسحوق الأسف.
عندها، كان الملمح الخامس بانتظاري، في موضعه داخل ذلك الوجه الاجتماعي المستنفر. وهو إنما يعبّر عن ظاهرةٍ متفشيةٍ تحت مسمّىً شائعٍ هو :(التسطيح): وهنا تكمن واحدةٌ من سمات المجتمعات ذات الصبغة الحماسيّة والانفعالية. فنحن نتحدّث بهذا الصدد عن “ثقافة القشور”، التي تؤول في مجملها إلى الأحكام المتسرّعة والجائرة، على ظاهر الأمور.
فالسطحيّون، عادةً ما يتنصّلون من مهمّات التمييز الصعبة، ويرفضون اعتماد المعايير النقدية المعقّدة، ويلجؤون -عوضاً عن ذلك- إلى اتباع الأساليب الانطباعية الأكثر سهولة.
إنهم لا يتقنون رياضة الغوص في أعماق المفاهيم.. ويخشون الاقتراب من فلسفة الأشياء!!
قلت لأحد الكتاب الموهوبين يوماً، بأننا نظلم أنفسنا، ونحطّ من قدر عقولنا، إذا سمحنا لمثل هذا التيار السلبي الجارف، بأن يحملنا على تغيير أسلوب تفكيرنا، وطريقة حياتنا، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر.
عندها، حدّثني – هازئاً – عن أولويّة توزيع الظلم على جميع الناس بالتساوي.
فيما علّقت فتاةٌ متدرّبةٌ في مجال الإعلام، وهي تنظر إلى الأسفل، بالقول:
يبدو أن العدل ما زال نائماً تحت سرير العقل.
حدث ذلك قبل أن يحظى الملمح السادس باهتمامي، وأعني به:(التشكيك):
ولا “شكّ” أنّ هذا المسلك النظري غير السويّ، يؤسّس لمنازع سلبية متعددة الاتجاهات والمستويات، تلقي بظلالها القاتمة على مختلف مناحي حياتنا. وبالطبع، فإن هنالك الكثير من العوامل الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، التي أسهمت في تجذيره، فأصبح جزءاً من بنية الفرد والمجتمع.
إننا نتحدث عن أحد مخرجات “الاستلاب” المرضيّة.
إن فقدان عنصر الثقة، هو الجوّ المثالي لنموّ مثل هذه الظاهرة المقيتة باضطراد.
ثم إننا -وبصراحةٍ موجعة- : نكره الذهاب إلى أهدافنا من أقصر الطرق. وكأن هنالك كنزاً ثميناً بانتظارنا على جانب الطرقات الملتوية، كما هو الحال في قصص الأطفال.
فجأة، ومن باب الصمت المؤقت، دخل متسولٌ آخر أعور، فحزنتُ لأنّ الله لم يستجب لدعائي، قبل أن أكتشف بأنه لم يأتِ لكي يشحذ المال، بل إنّ كلّ ما يريده، هو أن يتفضّل عليه أولئك الفضوليون المنتشرون في كلّ مكانٍ وزمان، فيتركوه وشأنه، حتى لا يحجبوا عنه قلبه.
أما سابع الملامح السالبة وآخرها، فإنه يجسّد الحاجز الأكبر، أمام المسار الطبيعي والموضوعي لتطوّر العقل العربي، الذي يبدو أنه لم يعد قابلاً للتطوّر.
وما نعنيه بذلك الحاجز هو:(اللامنطق):
إنني، ومن خلال تجربتي الشخصية، قد اكتشفت، بأن هنالك الكثير من الرجال الذين قابلتهم، في مجتمعاتنا العربية، ممّن يكرهون المنطق بقدر ما يحبّون النساء!!
ونحن لا نستطيع الإنكار بأن غياب المنطق، وطغيان ما هو ذاتي على ما هو موضوعي، يدفع، وبقوة، باتجاه إشاعة العديد من الظواهر السالبة وتعزيزها.
فاللامنطق، “معمل” مفتوحٌ على الرغبة في إنتاج سلعةٍ رائجةٍ هي (اللاحوار)..
وهو من “أفضل” الوسائل والأدوات التي يمكن استخدامها لمصادرة الرأي الآخر، بل وحتى إنكار وجود الآخر بذاته، ونفي أسباب ذلك الوجود وشروطه.
وكم هو مثير للشفقة، أن يتصوّر أحدنا، بأنّ الجدل العقيم والأليم، الذي يغرق فيه الكثيرون منا، سواء في الواقع الفعلي أو الافتراضي، يمكن أن يمتّ للحوار الإيجابي البنّاء بصلة!!
علينا أن نعترف، بأننا نعيش في ” فضاءٍ معياريّ” حاضنٍ لجميع أشكال التعدّي، والتجاوز، والافتئات..
كل ذلك يحدث، ونحن – الأطفال الكبار – ما زلنا نصفّق راكضين خلف ثعلب خديعتنا لأنفسنا، الذي فات.. وفي ذيله سبعٌ من اللفّات الملوّنات الماكرات!!!!!!!

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

لو انك جارُنا … انعام القرشي

اشتقت لك جارنا، هذا المطر والبرد، حال دون ان اراك منذ مدة طويلة، لذلك احب أن تطمئن 😂 لقد عدت...! اهم بالمغادرة لشراء بعض الأشياء، لكنني اشعر بالدفء ولا رغبة لي بترك المكان او

%d bloggers like this: