إنه الليل، جاء ليدعوني

“قلم الرصاص”- بقلم انعام القرشي

إنه الليل، جاء ليدعوني إلى العشاء، ويحثّني على النوم. غير أنني قبل أن أفعل ذلك، أحسست بأن شيئاً ما يجذبني إليه دون أن أراه.. فخطوت نحو ذلك الدُّرج الخشبي العتيق، الذي كدت أنساه في عتمة الرّكن القصي من البيت، ثم فتحته برفق، وكأني كنت بحاجة ماسة وغامضة، إلى مفاجأة تداهمني كسبّاحة ماهرة، لتنتشلني من بحر البشر الهادر.
من منكم يتقن فن الغرق، في بحر ليس فيه ماء؟!
لقد كنت أبحث عن ورقة فارغة، كي أدوّن فيها شهادة اعتراض، على قطار العالم المجنون، الذي يسير بسرعة فائقة نحو الهاوية، فعثرت على قلم الرصاص الذي احتفظت به منذ مرحلة الدراسة الابتدائية. عندما فقدته قبل حوالي ثلاثة أعوام، حزنت كثيراً، وتحوّل حزني إلى دروس في الخط، والرسم، والحلم بعالمٍ جديد، لا يدوس فيه أحد على قلب أحد.
كان هذا أمراً سارّاً بالنسبة لشخص مثلي، يشعر بأن قلم الرصاص، هو الصديق الحميم، في أيام الطفولة البعيدة، الخالية من الهواتف النقالة، والبناطيل الممزّقة، وأسباب الاغتراب.
من منا لا يشعر باللهفة الجارفة، بل وربما الجارحة، إلى قلم الرصاص؟!
لقد كان عثوري على القلم المفقود، الذي التقمه كتاب مهمل بفمه الورقي، مفاجأة سارّة وصغرى. أما المفاجأة الأخرى والكبرى، فهي ما لم يكن يوماً في الحسبان:
فأمام صمتي الذي بلغ بي حدّ الألم.. تكلم القلم..!!
لم يكن من السهل عليّ أن أتمالك نفسي. رجوته أن يسمح لي بأن أكتب به ما يمليه عليّ، فقفز إلى يدي اليمنى، وبدأت أكتب بذهول، كلماته المؤثرة وهو يقول:
واهم من يتصوّر، بأنني يمكن أن أستسلم، وانسحب إلى خارج الدنيا بهدوء، تاركاً ضمائركم فريسة لوحش العولمة الأكثر من كاسر.
في أحد الأيام، أمسك الكاتب الكبير “عباس العقاد” بنصف قلم الرصاص، متوعداً بأن تسقط الحكومة التي كان يكتب به ضدها، قبل أن ينتهي ما تبقى له من عمر قصير. وهذا بالفعل، ما حدث لاحقاً، فقد رحلت الحكومة، قبل أن يكتمل نقصان القلم.
صدقني يا صديقي، أنا أعرف نفسي جيداً، وأشعر كم أنت في حاجة إليّ.
أتذكر حينما كتبت بي حرفك الأول، فخيّل إليك أنك قد كبرت أكثر من سنة، في أقل من لحظة!
كيف يمكنك الآن، أن تأتي بمثل تلك اللحظة النادرة، وتستعيد إحساسك القديم بالأشياء؟!
كم مرّة خطفني أقرانك من يدك، وفرّوا سريعاً ليختبئوا وراء بعضهم بعضاً، فلحقت بهم على عين النهار، وكأنك كنت تقاتل بشراسة، كي تخلّص “أخاك الأصغر”، من بين أيدي ثلة من الأشرار!!
لقد تقدّم بك العمر بسرعة ضوء مكسور داخل الماء، فصرت تبحث عن مدى صلاحيتك للحياة، في عيون غائمة.. أما أنا، فمن حسن حظي، أنني أولد كبيراً، ثم أصغر شيئاً فشيئاً، حتى اختفي عن الأنظار.
عندما قرّرتَ في ذلك اليوم الشتائيّ المشمس، أن تحتفظ بي إلى الأبد، انتابني شعور يشبه النُسغ الشفّاف، بأنك أخرجتني من جيبك، ووضعتني في قلبك.
أنت وفيّ بما يكفي لأقول لك: شكراً لأنك جعلت الزمن يتوقف بالنسبة لي، منذ ذلك الوقت، وحتى اليوم.. فقد كان مصيري أن أتلاشى، على سطر مسيري، فيما بين المبراة والممحاة.
كنتَ طفلاً شقياً أيها المواطن العربي، ولكني كنت أحبك بكل ما في داخلي من عاطفة التراب والشجر، تجاه من تنتمي إليهم من بني البشر.
أرجوك، لا تبرِني، حتى لا أكون مضطراً لأن أصغر في عينيك أكثر.
ما ظننتُ يوماً بأنك نسيت صورة قبة الصخرة التي رسمتها بي تحت الشجرة.
لقد كنت تقوم بذلك في الظل، بينما كانت الشمس تبتسم في عرض السماء، مبدية رضاها، عن كل ما تفعله، بعلامة من سناها.. وكانت رائحتي تمتزج بالمعنى.. ويتحول ملمسي إلى صورةٍ حسية، سرعان ما تصبح نواة لفكرة ذهبية.
كانت الورقة البيضاء تغويك، فأنبري أنا، لا لأكفيك شرها، بل لأعطيك خيرها.
وددت أن أقول لك حينها:
كم كنت رائعاً ومبدعاً، وأنت تلمس بأصابعك البيضاء، تعطش الجسد إلى التراب.. وتحرس بعينيك السوداوين، شوق الروح إلى الماء..!!
لكني في ذلك الوقت، كنت قلَماً أبكم.
سوف أفشي لك بسر: في إحدى الليالي، جاء والدك ليبحث عني في حقيبتك المدرسية. كنت أنت نائماً منذ الغروب. بعد قليل، وجدت نفسي أنتقل بين أصابع العديد من الرجال. لقد كانوا يستعدّون لجلسة من جلسات تحضير الأرواح. غرزني أحدهم في سلّة من القش. أطفأ آخر النور، فغرق الجميع في الظلام. تلا ثالث آيات من القرآن. كانت الروح المستدعاة هي روح جدك. وحينما حضرتْ، طرحوا عليها العديد من الأسئلة المتعلقة بالماضي، فأجابتهم كاتبة بي على ورقة صفراء: أيها السادة، أرى أنه من الأفضل، أن تفكّروا في المستقبل.
لطالما كنا؛ نحن أقلام الرصاص، نذكّر الناس، بل ونعوّدهم أيضاً، على أن الخطأ وارد، لكنّ تصحيحه ممكن. فعلى نحوٍ مباشر، كان هذا يجعلهم يدركون أهمية التجربة في بناء الخبرة، وضرورة المحاولة من أجل التغيير. أما على النحو غير المباشر، فقد كان يشيع بينهم ثقافة الاعتذار، ويرفع في أذهانهم من شأن التواضع، ويزرع في نفوسهم أدب الحوار.
وكم أشفق على من يتصور، بأن كلّ هذا، ليس من المحمولات الهامة والحاسمة، في عربة فلسفة النقد.
إنني أتحسّر على تلك الأيام الخوالي، التي لم يكن يمسك القلم فيها، إلا متعلم بصدق، أو كاتب بحق.
قل لي، هل صحيح ما بلغني، من أن عدد “الكتاب” العرب، بات أكبر من عدد القراء في الغرب؟!
طالما أنك صامت، فسوف أذكّرك بخريطة البلاد، التي رسمتها بي يوماً، بمساعدة أمك. ثم حملتها إلى معلم الجغرافيا، محلقاً كالطائر، بجناح من سرور، وآخر من حبور. كيف لا، وقد كنت تحمل في يديك الصغيرتين، هذه الأرض، وبكل ما عليها؟!
أتدري أن ما يجمعني بالإنسان هو طبيعة التكوين؟
فأنا مصنوع، بيديه، من خشبٍ، وفحمٍ، وطين..
ومن واجبي أن أخطّ برأسي المدبب، ما يدور في رأس كل من أمسكني ليكتب.
وقبل أن أعود إلى سكوني، أتمنى عليك أن تحقّق لي، ثلاثاً من الأمنيات:
أن لا تنسى بأنك ستجدني في المستقبل، كما عهدتني في الماضي، في متناول يدك، وقلبك، وعينيك.
وأن لا تستغني، في زمن الواقع الإفتراضي، عن خدماتي، حتى وإن لم تكن جليلة.
وأخيراً، أن تفتح هذا الدّرج بين الحين والآخر، وتتلو على مسامعي الحيّة “سورة القلم”
ثم سألته مستغرباً:
لماذا لم تتكلم طوال الفترة الماضية أيها القلم الحر؟!
فأجاب مع ابتسامة رمادية معبّرة:
أنت لم تفتح هذا الدُّرج منذ أمد بعيد، وما إن فعلت ذلك قبل قليل، حتى اقتحمَته طاقة سلبية لم أعهدها من قبل.. إنها طاقة مرعبة، تفلق الصخر، وتُنطق الحجر!!
لقد أخرجَتني عن طوري، حين احتلّت هذا المكعب الصغير، طاردةً كل ما كان يحتوي عليه من طاقة إيجابية خلاقة.. فتجاهلتُ، عامداً، شبح الموت، وتحدثت إليك بصدق، ولكن، بلا صوت.
“مواطن عربي”

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

لو انك جارُنا … انعام القرشي

اشتقت لك جارنا، هذا المطر والبرد، حال دون ان اراك منذ مدة طويلة، لذلك احب أن تطمئن 😂 لقد عدت...! اهم بالمغادرة لشراء بعض الأشياء، لكنني اشعر بالدفء ولا رغبة لي بترك المكان او

%d bloggers like this: