قراءة نقدية بقلم : منوبية كامل غضباني لقصيدة ” مع النفس” للشاعرة : سفانة بنت ابن الشاطئ

 

مع النفس…نص شعري تخرج فيه الشاعرة إلينا من داخلها في لحظة بوح نادرة صادقة…تلوذ بالكتابة والكتابة مستعصية تتأبّى عنها وهي سيّدة اللّغة المنثالة الطّيعة
مع “النّفس” عنوان لحديث خاصّ عن النّفس …ومع النّفس تتشاكل عوالم داخلية منصهرة َفي غلالة البوح الدّقيق ..
والحديث عن النّفس في الأدب هي لحظة مكاشفة وابداع يستحضر فيها المبدع انتكاساته وتعطّب روحه ذات ظرف إلى خارج أسوار الحجب والتّكتّم فيبوح بها ويحيّنها دون تهيّب لطمسها واغفالها
تستهل الشاعرة قصيدها بالقول:

إقتباس:

تعـبتُ من أرقي ومن تجـوالي

كالطفل أبحث عـن جواب سُؤال.
.

فرسمتُ من دمعي الحزينِ شواهدي

بـابُ الأنينِ ..مغــيَّـرُ الأقـــفـــالِ
.

فالشاعرة موجوعة تبطن القلق والتوتر في اعلان حالتها النفسية ..”تعبت من أرقي ومن تجوالي….أبحث عن جواب لسؤال…رسمت من دمع العين شواهدي “فهي تحدد بهذه الأفعال مدار مواجهة بينها وبين نفسها …وهي في علاقة تنافر وتشتت وضياع مع نفسها …فالأرق والتجوال وبحث كمالطفل عن جواب لسؤال تختزل لنا أبعاد التشاحن بينها وبين نفسها ….وقد برعت في اختيار الإستعارة في طفل يبحث عن جواب لسؤال
.

لم تعد شاعرتنا في مدار نفسها المرأة الكهلة المحنّكة فغدت بالتعبير والمجاز كطفل مستدعية ضمنيا قصور وعجز ذهن هذا الطفل عن الظفر بجواب لسؤال….
“رسمت من دمعي الحزين شواهدي “وهي بقولها هذا تنقلنا وتحيلنا مباشرة الى ما شابها من ارباك وتبعثر لم تفلح في اثبات شواهده بغير دمع حزين…
وللأنين باب “وأبواب لم تعد مفتوحة في وجهها لتصارع بولوجها كيانات نصية تريحها ..فهذه الأبواب قد غيّرت أقفالها وصارت وصيدة عصيّة وهي صورة معبرة معلنة عن دوائر الألم والإنكسار
وفي مقطع لاحق تقول شاعرتنا

:.
إقتباس:
وأجبـتُ فـي صمـتٍ رهـيــبٍ
إنني
نايٌ حزيـنٌ مُـجـهـضُ الآمــالِ

ففي تداعيات متلاحقة موصولة ببعضها تهتدي لجواب تقوله في صمت رهيب وبلغة شعرية مكثفة فيها كثير من المرارة
انني ناي …حزين مجهض الآمال
والناي هو من الآلات الموسيقية التي تعتمد النّفخ لإصدار صوتها الموسيقي فتشبيهها بالنّاي فيه احالة على امتداد الألم وعمقه ونزفه فيها
ورغم قدرة الناي على اخراج الصوت الموسيقي عند النفخ فهي ناي “مجهض الآمال “
وهي لعمري الصورة الأكثر ملامسة في رصد الحالة النفسية لشاعرتنا …لكنها سرعان ما تستدرك بالقول والتساؤل
.

إقتباس :
هل أهجرُ البوحَ المعتَّقَ بعدما

سارَ الشعورُ على خُطى الأمثالِ

ودخول “هل” على الفعل المضارع يتم صرفها للمستقبل فيصبح السؤال عن المستقبل لا الحاضر..كما أنّ ورود “بعدما “ينطوي على تمثل أفق مركّز ثابت في علاقة مع وضعية هامشية عرضية ..
فالسؤال المطروح على نفسها من نفسها وعلى ذاتها من ذاتها جوابه حاسم في ما جاء بعد “بعدما” سار الشعور على خطى الأمثال
فهذه الحيرة القابعة في نفس شاعر تتحول الى قرار حاسم تتضح فيه مسارب المعنى …
فالشاعرة توارثت الشعر وسال في دمها على خطى “الأمثال” والأمثال بهذا المعنى بها صورة حسية بما يحيز حملها على أصل المعنى اللغوي الذي هو الشبه والنظير، ..
وتتسع دوائر البوح في زاوتي نظر فتنقلنا من حال الى حال مع نفسها …فبين احالة على حسن المواجهة لنفسها الموجوعة في ادراك ووعي للتصالح معها وعدم ارباك مسارها “كي …”

إقتباس:
كي أنثرَ الحبَّ الـذي قد زانه

قلبٌ نقـيٌّ تاه في الـتجـوال

إلى استرجاع يؤصل الوجع من جديد الى حدّ لا تسامح فيه ..مع انكشاف يتراوح فيه منزلة من بات في شكّ وارتياب إللى المجاهرة ب”لست بغال”
.
إقتباس:

قد اوجعوه ..فلن تسامحَ أدمعي

من باتَ في شكٍ..فلسـتَ بغـالٍ

وبشيء من التماسك ومغالبة الإنفعالات الداخلية للنّفس تستهل باقي الحديث “بربما” وربما تفيد هنا التكثير في التمني.وقراءتها بتخفيف الباء او تضخيمها صواب .وقد قال بعض نحويي البصرة: أدخل مع ربّ ” ما ” ليتكلم بالفعل بعدها،)
وقد اشتغلت الشاعرة في المقاطع اللاحقة على صيغ تعبيرية تبدّت فيها النّفس في مجمل أبعادها ايجابية إذ لا جدوى من صراعات مع النفس ضد مسارها الإبداعي المألوف

إقتباس:
فلـربما تأتـي الـسـعادة فـجأة

تحـبـو إلـيـنا من خـلال وصال
.

وتصونُ أهدابُ اللـيالـي حُـلمنـا

ينمو اشتياقي في ثرى المخيال

كما لانلاحظ تداخل الضمائر في الأفعال ( ضمير المتكلم في صيغة الجمع نهيم …نلحق…نغدو …نعيد…)في اندماج تامّ مع “النفس” بعد نفور وتباعد
وضمير المتكلم المفرد(كنت ارجو…وأرجو..)
وقد بدا اختيار زمن الأفعال في المضارع مميّزا ووظيفيّا في التّأسيس للمستقبل والتّمرّد على الرّاهن النفسي والوجداني لشاعرتنا
وقد توسلت بصياغات لغويّة عميقة ودالة بماحملها لاقرار جوّ مشحون بالإنثيال والإنسياب
كقولها (نهيم مثل طير …نلحق وجدنا ..الحرف يشرق في أديم ليال ..)
.

إقتباس:
فنهـيمُ مـثلَ الطـيرِ نلحقُ وجـدَنــا

والحرفُ يشرقُ في أديمِ ليالٍ

قد كنتُ أرجو أن تعود قصائدي

قد كنتُ أرجو أن تصانَ حبالي

وبغير رجائها في عودة ملكتها الإبداعية في نظم الشّعر ورجائها في صون حبالها الموصولة الموثوقة به ما كان لهذه النفس أن تحقّق منجزها الإبداعيّ ..
وبقفلة رائعة أنيقة الصّياغة وفي تثبيت دقيق للحظة شعورية راقية مرهفة تقول
.

إقتباس:
هذا البيانُ كدرّةٍ في لـيلِنـا

نغـدو إلـيه كنجمـةٍ وهــــلالِ
.

لـنـعـيدَ أمجادَ الأماسي مـثلما

عادت حروفي حــرّةَ الـترحالِ

فالوسائل اللغوية المباشرة تسمح للمتلقي عبر مراوحة بين ضمير المتكلم بصيغة الجمع وضمير المتكلم بصيغة المفرد ينبئ بما لاشك فيه أنذ المنظور النّفسي للشاعرة قد استقام وتعافى وتصالح مع بعضه بعضا …
غير أنّ سطوة “الانا” في قولها
” مثلما عادت حروفي حرة الترحال “
كانت المحقق لدينا كمتلقين ترصدنا من خلاله الإنتصار والإنفراج عند شاعرتنا …
فكل الشكر للشاعرة القديرة سفانة بنت ابن الشاطئ التي وفقت في قصيدها هذا في أخذنا الى عوالم الجمال في”نفسها ” الرقيقة المتسربلة في خصوصياتها…فكل المعاني المتأججة في عمقك الإنسانيّ لا يكون جنيها في غير مكابدة وتعب …فبينا وبين النفس “مساحات عبث بين وجود وعدم “على حدّ قول الأديب التونسي محمود المسعدي ..

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: