جرَسٌ آخر .. انعام القرشي


لم يعد “سكّر” يستطيع المشي أو الركض كما كان قبل أن يسقط من الطابق الرابع وينكسر حوضه، بل لقد تحول إلى عبءٍ كبير.. ولم استطع وحدي أن اتخذ قراراً بإبقائه في البيت، أو تركه قرب مكبّ النفايات ليموت وحيداً، ففي كل مرة أحاول أن أحمله لأضعه هناك، يموء متضرعاً وواعداً بأن يبذل قصارى جهده حتى يشفى، ويعمل على تحسين وضعه، وتجميل صورته داخل البيت.

لقد عزمت أخيراً على اهمال كل الضغوطات والصعوبات، وقررت أن احتفظ به، بعد تفكير طويل وعميق.. لا سيما حينما أيقنت بأن الذي تسبب في سقوطه هم أولاد الجيران الذين كانوا يتربصون به، ثم قاموا بملاحقته في كل مكان، الى أن انتهى به الأمر محاصراً في إحدى زوايا الشرفة. وحينما هموا بالانقضاض عليه، قفز من هناك دون وعي، مفضلا الانتحار على ان يصبح رهينة لتلك العصابة من الأولاد الأشقياء.

قراري أربك العائلة ، وغير برنامجها الصيفي.. وحينما اجتمع افراد الأسرة، صرخوا في وجه القط المشلول :
” أنت قط شقيّ.. لم يعد يليق بك اسم “سكر”، ولا الإقامة بيننا في هذا المنزل، لقد اصبحت من قطط الشوارع “
لكنني صممت على أن يبقى.. واصبحت أتأخر عن الكثير من دعوات العائلة ومواعيدها الهامة، لأنها تصادف موعد طعام القط أو حمامه.
كانت دعوة حفل عيد الميلاد لإطفاء الشموع في كعكعة العمة “نانا”، وهذا يعني ان غضبها سيكون مختلطاً بالاشمئزاز من القط المسكين، وطقوس الاهتمام به، وهذا ما عبّرت عنه بالفعل عبر الهاتف، حين تأخرت عن موعد الحفلة، فصاحت بي قائلة:
“كبيه عند اي حاوية وخلصينا”
حينها، استشطت غضباً، وقلت لها بإصرار: 
اطفئي الشموع، لا تنتظريني، فالقط ما زال يأكل، وعلي ان أُحكم الرباط حول حوضه المكسور قبل أن أغادر.
نظر “سكر” إليّ ممتناً، ومد يده الموشحة بالبياض، مداعباً قرطي الذهبي، بينما كنت أنا، وبكامل أناقتي، منهمكة في شد حوضه الصغير بإحكام..

أتعرف؟!.. 
قلت له.. ثم تابعت حديثي مع قطي الذكي، الذي كان يصغي إلي حينها باهتمام:
لقد كنت شجاعاً، وفضلت الموت مع الحرية، على الحياة مع العبودية.
جميع أفراد العائلة قد ابتعدوا عنك، وهم يصفونك بالمشلول، لكنك تبدو سعيداً، رغم ما تحتاجه من مساعدة.. وها انت تزحف على الأرض، ولكن بحرية.. ودون ان تشعر بالضيق، ولم يعد يضيرك ما يشعرون به نحوك، أو يدبرونه لك..
حتى كلمة مشلول، لم تعد تعنيك، طالما أن يديك تداعبان يديّ، ووجهي، وشعري المنسدل على عينيك الخضراوين.
أعرف أنك تعبر بهذه اللمسات الرقيقة، عن امتنانك لي …

علي أن أذهب الآن، ولن أتأخر بالعودة. 
لا تحزن، فأنا لم أنسكَ يا قطي المدلل، ولن أفعل. 
لقد اشتريت لك هدية صغيرة؛ “جرس أحمر” سأعلقه في عنقك حتى أعرف أين أنت .. 
تعال هنا… هذا رائع ..!
إياك أن تخلعه؛ إذا كنت تريد أن تبقى حراً..
سأعود إليك سريعاً، لا تخف، فلدي هنا ما يجعلني أفعل ذلك وأنا سعيدة.
هل أسرّ لك بشيء قبل أن أذهب؟
حسناً، لقد اشتريت جرساً آخر وأكبر لي، وخبأته في ثيابي.. 
لا تعجب..
فمن حقي أن أشعر بالحرية مثلك.. ومن حقك أن تعرف أين أكون!!

المزيد من اعمالها

About abdulrahman alrimawi_wp

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: