تلفزيون ملون / سعادة ابوعراق

ما كاد الناس في الثمانينات قبل ان يصبح التلفزيون الأبيض والأسود من اثاث البيت الضروري، حتى دخل السوق التلفزيزن الملون الذي لم يحظ به سوى الأثرياء من الناس، فقد كان سعره باهظا غير محتمل لمعظم الناس، والعائلات القادرة على شراء الملون هذا، اصبحوا مقربين لجيرانهم، إذ اصبحوا محط الزيارات اليومية لكل الذين يريدون التفرج على ألوان الملابس للمذيعين والمذيعات ،والكل مندهش لما في ألوانه من سِحرٍ عجيب، وما بقي سوى أن يخترعوا تلفزيونا ينشر رائحة العطر للمذيعة.

و لأحد هؤلاء البسطاء قصة مع هذا الاختراع الجديد، قصة ما زال يتندر بها أهل الحي بل أهل عمان كلها، حين هبط عليه ضيف قريب لهم قادما من الكويت ناويا ان ينهي عمله هناك، ويستقر في عمان، وكانت هذا العائلة كبقية العائلات المستورة التي تخجل من زيارة جيرانها الذين لديهم تلفزيونات ملونة، وكانوا يرممون تلفزيونا شبه تالف، دائم التشويش والانقطاع، وهم دائمو التصليح له وإعادة توجبه الشبكة التي يطلب من الأولاد القيام بها، لذلك كان التلفزيون الملون أكثر الأشياء ضرورة، وأصبحت من المشاكل المستوطنة، فالرجل في اشتباك دائم مع أولاده الذين لا يعرفون عن إدارة المصروف في مساحة الميزانية المتاحة ، إذ لا يمكن شراء جهاز قديم ولا جديد غير ملون ولا يستطيعون الاستمتاع بسهرة كاملة لا انقطاع فيها أو تشويش للمسلسلات او الأخبار.

قريبه الذي استضافه، طلب منه أن يجد له بيتا ينزل به، فوجد بيتا مناسبا في الحي، فأنزل به ما جلبه معه من سجاد وثلاجة وغسالة وتلفزيون ملون ومراوح وأدوات، وسافر في اليوم الثاني، لفت التلفزيون الملون انتباه أولاده، اصبحوا يهرفون كالقطط الجائعة، يطلبوا من ابيهم أن يشغله لهم، لكنه أبا، فلا يحق له استعماله دون اذن من صاحبه، رجوه كثيرا حتى هم بإسكاتهم ضربا، لكن زوجته كانت مع رأي أولادها، اقنعنه انه لن يحدث شيئا، نتفرج عليه ونقضي شهوة الأولاد، وعندما يرجع نفكه ونضعه في علبته، لم يستطع الرجل ان يقاوم، ذهب إلى البيت واحضر التلفزيون ووضعه على طاولة القديم، وقام بتشغيله ، فإذا بالألوان مبهرة، فرح الأولاد حتى نسوا واجباتهم المدرسية والعابهم خارج البيت، وجاء الجيران يسهرون عندهم ، وبعد أيام قليلة اصبح التيار الكهربائي شديد التذبذب فاحترق التلفزيون، فلا صوت ولا صورة ، ووقع المحظور، واخذ الرجل يلوم ازوجته والمرأة تلوم الأولاد، ذهبوا به إلى مصلحي التلفزيونات، فقالوا لهم نريد المخطط، هذا جديد لا نعرف تصليحه.

انهم الان في ورطة، إنهم أعجز من أن يدفعوا ثمنه، البالغ مائتي دينار، أي ضعف راتبه الشهري، كما أنهم لن يحتملوا كلمة من قريبهم او نظرة لوم منه ، فكرامتهم فوق كل اعتبار، انه لا يملك شيئا، وقريبه الذي سيعود بعد شهر إلى بيته، سيكون محرجا ان يجد تلفزيونه محترقا، فلا يستطيع ان يسامحه او يشتري بدلا منه، وعليه ان لا يستطرد باللوم والندم، فقرر ان ينزع من راتبه عشرين دينارا ، إي ربع راتبه من حساب المصروفات الأساسية، اما الزوجة فذهبت تطلب من جارتها الخياطة في تشطيب الملابس التي تخيطها بخمسة عشر دينارا في الشهر، اما الرجل فذهب بعد الظهر إلى موقف السيارات العمومي، حاملا ابريقا كبيرا من الشاي يبيع السائقين والمراقبين والمسافرين الشاي والكعك ، فوجد انه يبيع بدينارين او ثلاث يوميا ، بمعنى انه سيكسب ثمانين دينارا في الشهر حسبوا ذلك، فما كانت تكفي، فلجأت المرأة إلى بيع إسوارتها الذهبية واكملت المبلغ، وطلبوا من صديق لهم ذاهبا في زيارة إلى الكويت ان يجلب لهم معه تلفزيونا من نفس العينه، فأحضره ووضعوه في صندوقه الكرتوني، في بيت قريبه المستأجر، وارتاحوا من غَمٍّ أقلقهم، وقالوا في عتاب لأنفسهم ، لو قمنا بالتوفير بهذه الطريقة سابقا لكنا اشترنا تلفزيونا منذ زمن،

وعاد الرجل هو وعياله وشاحنة من الأثاث، فلاحظ ان التلفزيون موضوع في كرتونة تختلف عنا له، فتحها فوجد تلفزيونا جديدا، فقال هذا مثل تلفزيوني، لكنه ليس لي، من وضع هذا هنا ؟ ارتبك الرجل ولم يدر كيف يشرح له ما حصل، راوغ قليلا لكنه اعترف أخيرا، وشرح خَجِلا بما حصل ، وموقفه الذي لا مناص منه إلا أن نشتري لك تلفزيونا كالذي عندك، إنه ليس غرضا بسيطا، سأله عن الخراب الذي حدث قال لا ادري، والفنيون الألكترنيون عجزوا عن تصليحه، وطلبوا كتالوج التصميم، فقلت لا بد أن اشتري لك واحدا مثله، فقال له ماذا حدث فقال انطفأ فجأة ، فقال له بسيطة، وراح يتفحصه فنزع فيوزا وراح يعاينه ثم استل آخر من مكان مخبوء ووضعه مكانه، وضغط على زر التشغيل فأضاء ثم اشتغل، بهت الرجل وما درى أيضحك ام يبكي؟ لاحظ الرجل انبهاره فقال يفسر ما حدث:

هذه النوعيات من الأجهزة الحديثة يرفق معها عدة فيوزات، ممن تحترق حماية للجهاز كاملا، وما عملته أن نزعت التالف ووضعت الاحتياط.

لم يكن يوما بهذا السرور الذي هب على روحه ، وأزاح جبل الهم الجاثم على ضميره، حمل الجهاز بما لديه من قوة ليضعه مكان القديم، ويقول وهو يزيل عنه بعض الأوراق وقطع الفلين،

 

ما كاد الناس في الثمانينات قبل ان يصبح التلفزيون الأبيض والأسود من اثاث البيت الضروري، حتى دخل السوق التلفزيزن الملون الذي لم يحظ به سوى الأثرياء من الناس، فقد كان سعره باهظا غير محتمل لمعظم الناس، والعائلات القادرة على شراء الملون هذا، اصبحوا مقربين لجيرانهم، إذ اصبحوا محط الزيارات اليومية لكل الذين يريدون التفرج على ألوان الملابس للمذيعين والمذيعات ،والكل مندهش لما في ألوانه من سِحرٍ عجيب، وما بقي سوى أن يخترعوا تلفزيونا ينشر رائحة العطر للمذيعة.

و لأحد هؤلاء البسطاء قصة مع هذا الاختراع الجديد، قصة ما زال يتندر بها أهل الحي بل أهل عمان كلها، حين هبط عليه ضيف قريب لهم قادما من الكويت ناويا ان ينهي عمله هناك، ويستقر في عمان، وكانت هذا العائلة كبقية العائلات المستورة التي تخجل من زيارة جيرانها الذين لديهم تلفزيونات ملونة، وكانوا يرممون تلفزيونا شبه تالف، دائم التشويش والانقطاع، وهم دائمو التصليح له وإعادة توجبه الشبكة التي يطلب من الأولاد القيام بها، لذلك كان التلفزيون الملون أكثر الأشياء ضرورة، وأصبحت من المشاكل المستوطنة، فالرجل في اشتباك دائم مع أولاده الذين لا يعرفون عن إدارة المصروف في مساحة الميزانية المتاحة ، إذ لا يمكن شراء جهاز قديم ولا جديد غير ملون ولا يستطيعون الاستمتاع بسهرة كاملة لا انقطاع فيها أو تشويش للمسلسلات او الأخبار.

قريبه الذي استضافه، طلب منه أن يجد له بيتا ينزل به، فوجد بيتا مناسبا في الحي، فأنزل به ما جلبه معه من سجاد وثلاجة وغسالة وتلفزيون ملون ومراوح وأدوات، وسافر في اليوم الثاني، لفت التلفزيون الملون انتباه أولاده، اصبحوا يهرفون كالقطط الجائعة، يطلبوا من ابيهم أن يشغله لهم، لكنه أبا، فلا يحق له استعماله دون اذن من صاحبه، رجوه كثيرا حتى هم بإسكاتهم ضربا، لكن زوجته كانت مع رأي أولادها، اقنعنه انه لن يحدث شيئا، نتفرج عليه ونقضي شهوة الأولاد، وعندما يرجع نفكه ونضعه في علبته، لم يستطع الرجل ان يقاوم، ذهب إلى البيت واحضر التلفزيون ووضعه على طاولة القديم، وقام بتشغيله ، فإذا بالألوان مبهرة، فرح الأولاد حتى نسوا واجباتهم المدرسية والعابهم خارج البيت، وجاء الجيران يسهرون عندهم ، وبعد أيام قليلة اصبح التيار الكهربائي شديد التذبذب فاحترق التلفزيون، فلا صوت ولا صورة ، ووقع المحظور، واخذ الرجل يلوم ازوجته والمرأة تلوم الأولاد، ذهبوا به إلى مصلحي التلفزيونات، فقالوا لهم نريد المخطط، هذا جديد لا نعرف تصليحه.

انهم الان في ورطة، إنهم أعجز من أن يدفعوا ثمنه، البالغ مائتي دينار، أي ضعف راتبه الشهري، كما أنهم لن يحتملوا كلمة من قريبهم او نظرة لوم منه ، فكرامتهم فوق كل اعتبار، انه لا يملك شيئا، وقريبه الذي سيعود بعد شهر إلى بيته، سيكون محرجا ان يجد تلفزيونه محترقا، فلا يستطيع ان يسامحه او يشتري بدلا منه، وعليه ان لا يستطرد باللوم والندم، فقرر ان ينزع من راتبه عشرين دينارا ، إي ربع راتبه من حساب المصروفات الأساسية، اما الزوجة فذهبت تطلب من جارتها الخياطة في تشطيب الملابس التي تخيطها بخمسة عشر دينارا في الشهر، اما الرجل فذهب بعد الظهر إلى موقف السيارات العمومي، حاملا ابريقا كبيرا من الشاي يبيع السائقين والمراقبين والمسافرين الشاي والكعك ، فوجد انه يبيع بدينارين او ثلاث يوميا ، بمعنى انه سيكسب ثمانين دينارا في الشهر حسبوا ذلك، فما كانت تكفي، فلجأت المرأة إلى بيع إسوارتها الذهبية واكملت المبلغ، وطلبوا من صديق لهم ذاهبا في زيارة إلى الكويت ان يجلب لهم معه تلفزيونا من نفس العينه، فأحضره ووضعوه في صندوقه الكرتوني، في بيت قريبه المستأجر، وارتاحوا من غَمٍّ أقلقهم، وقالوا في عتاب لأنفسهم ، لو قمنا بالتوفير بهذه الطريقة سابقا لكنا اشترنا تلفزيونا منذ زمن،

وعاد الرجل هو وعياله وشاحنة من الأثاث، فلاحظ ان التلفزيون موضوع في كرتونة تختلف عنا له، فتحها فوجد تلفزيونا جديدا، فقال هذا مثل تلفزيوني، لكنه ليس لي، من وضع هذا هنا ؟ ارتبك الرجل ولم يدر كيف يشرح له ما حصل، راوغ قليلا لكنه اعترف أخيرا، وشرح خَجِلا بما حصل ، وموقفه الذي لا مناص منه إلا أن نشتري لك تلفزيونا كالذي عندك، إنه ليس غرضا بسيطا، سأله عن الخراب الذي حدث قال لا ادري، والفنيون الألكترنيون عجزوا عن تصليحه، وطلبوا كتالوج التصميم، فقلت لا بد أن اشتري لك واحدا مثله، فقال له ماذا حدث فقال انطفأ فجأة ، فقال له بسيطة، وراح يتفحصه فنزع فيوزا وراح يعاينه ثم استل آخر من مكان مخبوء ووضعه مكانه، وضغط على زر التشغيل فأضاء ثم اشتغل، بهت الرجل وما درى أيضحك ام يبكي؟ لاحظ الرجل انبهاره فقال يفسر ما حدث:

هذه النوعيات من الأجهزة الحديثة يرفق معها عدة فيوزات، ممن تحترق حماية للجهاز كاملا، وما عملته أن نزعت التالف ووضعت الاحتياط.

لم يكن يوما بهذا السرور الذي هب على روحه ، وأزاح جبل الهم الجاثم على ضميره، حمل الجهاز بما لديه من قوة ليضعه مكان القديم، ويقول وهو يزيل عنه بعض الأوراق وقطع الفلين،

الصدق لا ينجّي فقط، بل الصدق يُربح.

Read more

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ندامة الكسعي - مما اعجبني

ندامة الكسعي – مما اعجبني

استخدم العرب تشبيه "ندامة الكسعي" لوصف أسوأ حال يصل إليه المرء عند الندم، وتأتي القصة لرجل كان يرعى إبله في البر فرأى شجيرة يصلح خشبها للسهام فسقاه

%d bloggers like this: