أرشيف حديث القصيد - فطنة

بقلم د. فطنة بن ضالي السؤال والتساؤل في قصيدة “تحت الضوء رجال ذئاب” للشاعرة العراقية الدكتورة حياة الشّمري

تحتَ الضوءِ رجالٌ ذئاب

الفصولُ تفككتْ وعرى التكوين كالولادةِ
لا تُعاد
عنابرُ التخزينِ أفواهٌ اُطعِمَ ريقَها التساؤل
كيفَ نصعدُ لقممٍ رجالها تحت الضوءِ ذئاب. ؟
الأحتراقُ واردٌ….الأختناقُ واردٌ…
والذي لم يرد في همسِ التساؤلِ …أنتَ
فمنْ ..ولماذا…ولِمَ..
أجسادُ الفقراءِ هكذا. ؟
عيونٌ تنتظرُ أرحامَ البواباتِ
هل ستُفتحُ كعيونِ الزمنِ المثقلِ بالجراجِ ..؟
العشقُ جوعٌ وزهرتي ضوعُها دماء
على صدرِ الحبيبِ
والزمنُ سهلهُ وجعٌ لصخورٍ
سُيّجتْ بالمذابحِ
وجثمان شهيدٍ ودّعَ في زنزانتهِ الأشعارَ وغفا
الى أينَ …الى أينَ ..؟
الروادُ أمهاتٌ والوقتُ يغزو القبورَ
بجحافلَ الأيامى
محضُ رياحٍ تعصفُ في الصدورِ
لعيونٍ تحجرتْ كآلةِ الحدباءِ
فالمحمولُ عراقيٌّ والعراقيُّ محمولٌ
على الخرائطِ الممزقةِ
لوّنتْ أنهارَها عواصفُ الدماءِ
صلاةُ الأمسِ غيرُ صلاة اليومِ
يا هذا الجاثي على سجادةِ الرؤى
سأنكسرُ كقصبةِ سكر
وأختبيءُ تحتَ قميصِكَ وما تبقى
من عطرِكَ
وعندَ ضجيجِ العجلاتِ
سأتشحُ كالمدى بالسواد
أنا المتصدعةُ خلفَ سرابِ الركبانِ
روحي ترتحلُ. ووجهكَ الغائبُ
نسيتُ عندهُ قبلةَ وداعٍ
لا تنتظرْ إذن …
القراراتُ مساحاتُ ريحٍ
وحريتُكَ حسناءٌ قُطّعتْ شرايينُها
يا من روحكَ الوطن تُطاردهُ العواصم ُ
كغريبٍ على قارعةِ اليُتمِ
وحينَ يغسلُ وجهَكَ الشعاعُ
تأخذُ الجدرانُ من ثغرِكَ قُبلةً …وتمضي
عيناكَ المتقدتانِ تُغيظانِ الليلَ
كشمعتينِ بعناد
الجراحُ أصفادٌ تُكبّلكَ
والأحداقُ رماحٌ تُغرسُ في لحمِكَ
الشهيِّ
وتحتَ مرايا صدرِكَ صورُ الدربِ الطويلِ
قصائدٌ كسرايا جندٍ تدقُّ أكتافَ الطبولِ
وتمضي….
شهيقُكَ الجليلُ أسيافٌ
تُقطّعُ الأعناقَ
زفيرُكَ والطريق نهرٌ في غيرِ المسارِ
وأنتَ تبكي على مسلّتِكَ. الطوفان
شاهدُكَ لقبٌ أو وجهٌ ولادتُهُ كلمات
عمرٌ يقتبسُ عمراًمن صدرِ الأيامِ
وتمضي….
خفقةَ أثيرٍ متمردة ٍ لا تنام
يا مودعاً شمساً …أرضاً..
قُتلتْ بأفكارٍ حُبلى بالدنايا
لي حضنٌ يموجُ بدمعتهِ مع الريحِ
وأحداقٌ تسّاقط الحلمَ من رئةِ الوداع
فالأجراسُ ستُقرعُ للموتى بخطى
أجراسِكَ
لكنّكَ تمضي
ممتشقاً كلماتكَ كالجيادِ
ونبوءة قلمِكَ تُعلنُ الرسالةَ .

د. حياة الشمري

       تنم القصيدة عن وعي الشاعرة بما يجري في الوطن وما يعانيه الإنسان العراقي، فهي مؤَطرة بقولها:( فالمحمول عراقي والعراقي محمول) (على الخرائط الممزقة) حيث تضعنا الشاعرة هنا في ظروف النص تبعا لظروف الوطن، و تستنكر في البداية التشتت والتفكك  والانقسام الذي عبرت عنه بقولها :  ( الفصول تفككت ) و(عرى التكوين …لا تعاد ) فالولادة تكون مرة واحدة وتعني الوجود والحرية والكرامة التي يجب المحافظة عليها، إشارة إلى الواقع المعيش في هذا الإبان، وهو واقع الحرب عبرت عنه الشاعرة بجمل اسمية تدل على الثبوت ، وتزيد تأكيد هذا الواقع المزري ،  في  آخر الفقرة الأولى بجملة إنشائية استفهامية متسائلة عن الحال (كيف نصعد ؟) وهكذا تتوالى الجمل الحكائية واصفة الواقع تنتظمها بنية السؤال والتساؤل، وبنية الواقع والتحول ؛ لقد اكتوت الشاعرة بطرح الأسئلة الكبرى وبالتساؤل، حول الواقع والمصير، تقول : (فمن ولماذا ولم…أجساد الفقراء هكذا؟) معبرة عن المعاناة ، مستفسرة عن المصير : (هل ستفتح كعيون الزمن؟) و (ودع الأشعار إلى أين …إلى أين ؟.) هكذا،  تتساءل حول واقع مثخن بالجراح وما جرته ويلات الحروب على الشعب العراقي وما أفرزته من تناقضات  على جميع المستويات سياسيا واجتماعيا وثقافيا، ووصفت القصيدة هذا الزمن ب :  (الزمن المثقل بالجراح ) و (وجع لصخور … سيجت بالمذابح)، هذا الواقع المرير الذي عانى منه المدنيون، وما حصل فيه من تغييرات ، جعل الشاعرة  تصف  معاناة المرأة ومعاناة الوطن بين واقع متأزم وبين ما ترجو أن يصبح عليه الوطن، تقول: (الرواد  أمهات) قاصدة إلى ما تعانيه المرأة الأم من توديع أبنائها  والزوجة من توديع الزوج، و قساوة الحياة في ظروف مليئة بالتقلبات والصراعات ، في وطن تغيرت فيه الأحوال وسمته بقولها (الجراح أصفاد  تكبلك)، وفي ظل هذا الواقع وهذا التحول؛ الوطن لا يستسلم – كما لا تستسلم الشاعرة – ، رغم الظروف المحيطة به ورغم تحديق الآخر، فهو ينهض يمضي نحو الحرية التطور،  مستعملة الفعل (تمضي) أنت الوطن بصيغة المضارع الدال على الحال والمستقبل وتكرار الفعل أكثر من مرة دلالة على القوة والثبات على الخطى من أجل مستقبل يرضاه الشعب وترضاه الشاعرة ، هو التطور في جميع المجالات في ظل التحول السياسي والاجتماعي والثقافي تقول: (لكنك  تمضي ، ممتشقا …ونبوءة قلمك تعلن الرسالة) إذ يحضر العراق عند الشاعرة في القصيدة قويا يخط مستقبله ومستقبل العراقيين .

       يمضي متجاوزا كل الأحداث السلبية المؤسف لها، التي قالت عنها(الاحتراق وارد..والاختراق وارد)، بمثل هذه الجمل القصيرة جدا،  مستنكرة ما جرى وما عاشه الإنسان العراقي من تبعات الحرب، باستفهام استنكاري، وغيره ، وبالنداء(يا من روحك الوطن) (يا هذا الجافي)، معلنة رفضها هذا الواقع (سأنكسر) باستعمال فعل يتساوى فيه الفاعل والمفعول، وتقول  ( أنا المتصدعة ) أنا الشاعرة المرأة الأم في الواقع التي تقاسي وتودع ، والرمز الأرض التي تقاسي من النهب والسلب والتمزيق، ومخلفات الدمار الشامل، تقول 🙁 يا دموعا  شمسا…أرضا ) (قتلت بأفكار حبلى بالدنايا)،أي عدوانا على المآثر الحضارية والثقافية، لكن الوطن يمضي رغبة من الشاعرة في تثبيت نهوض العراق وتطوره بأهله وثقافته (عيناك المتقدتان تغيظان الليل .. كشمعتين بعناد) هو العزم الذي يجعله يتخطى تلك الظروف الحالكة المشبهة بالليل والحرجة.

      لجأت الشاعرة في التعبير، عن إحساساتها وأفكارها حول الوطن وإدراكها ما يجري فيه وموقفها من ذلك ، لصور أدبية بلاغية، وذلك لما للصور من تأثير على المتلقي وتوضيح وتعميق المعنى بأساليب مختلفة كما يقول وهب رومية:  “تعد الصورة ركيزة أساسية من ركائز الشعر، و بها تتجلى حيوية  “التخييل” وعمقه ، بيد أننا ينبغي ألا ننسى- ونحن نؤكد أهمية الصورة – أن النص الشعري كل عضوي متكامل ، وأن خصائصه ، تفوق مجموع  خصائص  عناصره ولذا قد يكون  ضروريا أن نشير بين الوقت والآخر إلى تآزر هذه العناصر لإنتاج الدلالة”. الشعر والناقد عالم الفكر ع 33، سبتمبر 2006 ص 308 . وهي لدى الشاعرة  إما صور تشبيهية  مثل : (عرى التكوين كالولادة لا تعاد) ، في عزة و صون الكرامة، وكذلك ، (عيون تنتظر كعيون الزمن المثقل بالجراح)…لكن عينا الوطن شمعتان تهديان بالأمل.أو صور مجازية إستعارية،  تحقق فيها الإنزياحات تعميق المعاني، مثل:( الأحداق رماح تغرس في لحمك ) و ( الوقت يغزو القبور)، إذ أصبح الزمن  غالبا يفتك بالإنسان، كما استعملت الكناية في قولها : صلاة الأمس غير صلاة اليوم  كناية عن الأمانة والأمن  والتباين بين الحالتين، ويحيل الذئب والقميص في قوليها 🙁 رجالها تحت الضوء ذئاب) على الآية الكريمة : أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون الآية 13 سورة يوسف ، حكاية عن أبيه عليه السلام، ويعزز هذا إحالة القميص في قولها: ( وأختبئ  تحت قميصك وما تبقى من عطرك) على الآية : فلما جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا، يوسف 96.

         فقد وظفت الشاعرة الذئب رمزا إلى القوة والشراسة كما وظفت الرائحة والقميص الذي رد لأبي يوسف عليهما السلام  الرؤية ، كناية منها عن الأمل في العمار والبناء والتطور الذي تصبو إليه والوضوح في الرؤية والرؤيا .

     القصيدة مؤتلفة الأوصال بصورها الأدبية العميقة،والتي يعطي تراصها إيقاعا معنويا مهما جدا،  يزيده بعض التقابلات ، بين التراكيب، وتكرار بعض الألفاظ مثل : المحمول عراقي / العراقي محمول ، صلاة الأمس / صلاة اليوم تكرار الفعل: تمضي أكثر من مرة .

ذلك أن قصيدة النثر تعد” كتلة لا زمنية ، من هنا يأتي تميزها كنوع شعري ، واختلافها عن بعض الأشكال التي خلطت بها ، (…) تقدم نفسها مثل كتلة وتوليف لا ينقسمان ، من ثمة تبدو القصيدة ومضة لحظية لأن مطلبها الجوهري والأساسي هو أن تعيد الديمومة إلى الحاضر الخالد للفن . تجمد مصيرا متحركا في أشكال لا زمنية ” كما يقول الدكتور: عبد العاطي  بانوار في تحاور الأنواع الأدبية في الأدب العربي الحديث، أطروحة دكتوراه الدولة، جامعة القاضي عياض،2002-2003 ص136.

  وهكذا اعتمدت الشاعرة في التعبير عن المعاناة ، على التراكيب والأساليب والصور الفنية  المتناسقة والمنسجمة ، والتي تدل على قدرتها في الإفصاح عن التجربة الشعورية والفكرية  وميزت رؤيتها الشعرية في هذه القصيدة .

مراكش في 18-07-2020.

المزيد من اعمالها 

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: