انتقام / أماني شبكة


ذاق الفقر وسوء العيش .. أجادت يد الزمن رسم خطوط وجهه ..بدا كخريطة متقنة المعالم.. ذلك هو حنكشة الإسكافي.. ذلك الرجل المعدم ..عُلقت القباقيب والخف على حائط محله المتواضع بزقاق من أزقة شوارع الأزاريطة.. رُشقت المسامير في مواضع مختلفة..عُلقت أكياس على بعضها..آخر يحمل على عاتقه لمبة جاز عتيقة.. وذاك تحمل رأسه نتيجة قلت أوراقها كشجر الخريف.. تنبئ عن عام أوشك أن ينصرم ..راديو قديم متهالك يعلوه التراب.. أريكة وكرسي خشبي يتخللهما الخوص.. طاولة مغطاة بجريدة قديمة زادها المصباح المتدلي من السقف اصفرارا.. عليها خيوط .. مسامير متفرقة..إبريق شاي يفوح منه عبق التاريخ .. افترشت القوالب الخشبية الأرض .. بجانبها ورنيش.. أصباغ مختلفة.. أحذية وصنادل شتى.. ضاقت أكياسها..لفظت نفسها خارجها..عفا على بعضها الزمن ..وأخرى تناشد النظر لحالها.. يشارك الراديو حنكشة أوقاته ويؤنس وحدته.. انفرجت أساريره حينما تنامى إلى سمعه عبر الراديو عن يوناني سيغادر الإسكندرية في غضون أيام قلائل..يهدي محله بشارع كنيسة الأقباط لأمهر حرفي والتفاصيل بجريدة الأهرام.. خر حنكشة ساجدا..يلهج لسانه..يأمل أن يحظى بهذا المحل.. يعشق حرفته ويجيدها.. أكسبه العمل وهو صغير مع طاناشي خبرة ..يحلم أن يتوسع ويُعرض أحذية مغايرة عما يعرض بالمحال..تتجسد فيها إبداعاته ومهارته اليدوية.. يتوق لهذا الحلم منذ زمن وتلك الانفراجة التي تدر دخلا جيدا..
خرج من باب محله غير متكئ على عكازه..سرت بجسده المنهك قوة..منحت ظهره المنحني استقامة وصلابة.. أخبر شارعه ومن يشاركونه أفراحه وأتراحه.. دوى الخبر..أحدث جلبة..فُتحت النوافذ والبلكونات على مصراعيها.. زغردت النساء..أشيعت البهجة..تركهم حنكشة .. تقفز الأحلام لمخيلة كل حرفي بشارعه.. وصل لمحله ..على الأعتاب تراءت له نفسه بمحل الخواجة طاناشي كبير محل الأحذية يرحب بزبائنه..
يدخل محله..تظل الأحلام تداعب بأناملها الرقيقة عينيه..يدخل ابن جاره بعد عودته من المدرسة..يقرأ له التفاصيل من الجريدة.. يرقص قلبه فرحا..تتوافق الشروط معه.. يدنو الأمل ويفتح بابه له مرحبا..تبدو الآمال العريضة والأهداف بعيدة المدى قريبة نصب عينيه..تجتاحه ..تهز وجدانه.. تسلب لبه فيتخبط.. يخبر صبيه أنه سيستغني عن الخف والقباقيب ..كانت ديكورا ولن يحتاجها لاحقا بمحله الجديد.. تنظر له متألمة وتقطب جبينها ..ينفذ قوله..
يتنازل عن الخف التي لازمته بمحله زمنا.. تنصرف ودمعها على خدها..يفرط في القباقيب..يرمي بعضها بصندوق قمامة الشارع ..تخرج البقية تجر ذيول الحسرة والندامة..
ظلت القباقيب الملقاة بالقمامة تئن ..تنتحب لمصيرها الذي آلت إليه..استرق سعيد النجار السمع لهذا النحيب ..بحث عن مصدره.. أخرجها متألما ..رق لها بعدما قصت عليه حالها..فما كان منه إلا أن يضمها لمحله وأخشابه التي استقبلتها بالترحاب ووعدها سعيد بالأمان لديه فسكنت واطمأنت..
تقدم الكثيرون من الحرفيين المهرة..
قربت التصفية على الانتهاء..أوعز المقربون من حنكشة أن الاختيار سيكون لصالحه وأن الغلبة له لامحالة..كفاءته فاقت الجميع والكل سيرشحه رغم أن منافسا كان متقدما مثله وهو كذلك حرفي ماهر.. يتقبل حنكشة التهاني.. يوزع الشربات على أبناء شارعه سعيدا بالبشرى وبحلمه الذي أوشك أن يتحقق ..
يرن الهاتف بمحل البقالة المجاور لحنكشة.. يجري العامل عليه ..يخبره بالذهاب الساعة التاسعة صباحا لاستلام المحل الجديد.. يقطع حنكشة ورقة بالنتيجة وتتبقى ورقة واحدة ..يملؤه التفاؤل والبشر.. يرتدي ملابسه ويتهيأ للذهاب ..تسبق الفرحة قدميه…يصل في الموعد..
يرى اليوناني خارج المحل.. يركب سيارة متجها للمطار .. يفتح باب المحل وإذا بسعيد النجار يستقبله مرحبا به بمحله الجديد .. رجحت كفة سعيد بعدما تكالبت القباقيب في ساعة متأخرة من الليل تبث شكواها.. ثم أعلنت تصويتها لسعيد .


أماني شبكة

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: