سعادة

الحاجة ربيحة / سعادة ابوعراق

 

بَلغتْ السَّبعينَ على مَهلٍ، تُجرجِرُ أيامَها بِصُعوبةٍ، لا تدْري إلى أيِّ الجهاتِ تَسيرُ، فقدتْ الريحَ والدفَّةَ والشِّراعَ، فمنذُ أن ودَّعَتْ ابنَها إلى أمريكا، وهيَ تحلمُ بالدولاراتَ التي َتأتيها بالبريدِ المسجَّلِ تَصرفُها دنانيرَ كثيرةً ، تغيِّرُ بها سَقيفتها التي تعيشُ بها مُنذُ تزوجَتْ، قبلَ نِصفِ قرنٍ، ولعلَّها تأكلُ يوماً حتى الشَّبعِ، لعلّها تلبسُ منديلاً جديدةً خاليةً منً الترتيقِ، وثياباً ليستْ صدقَةً من أحدٍ، لعلّها تذهبُ للحجِّ وتزوّجُ ابنها وتفرحُ به كما كلّ النساءِ.

ومنذُ أنْ جَففّتْ دموعُ الفراقِ، أصبَحتْ أحلامَها تتسعُ كاشفةً عَن تفصيلاتٍ أكثر، فلا بُدَّ أن تهدِمَ هذِه السقيفةَ المبنيَّةَ من دَبشِ وطين، لتبنيَ غُرفةً من الإسمنتِ، تكونُ أكثر وسعاً وأعلى ارتفاعاً، وسطحُها متماسكٌ لا ينطفُ مطراً في الشّتاءِ، وبعيد مِنها مرحاضٌ يسترُ ما يسترُ عند الحاجةِ، وتكونُ بيتَ الزوجيّةِ لابنِها، وتُبقي مكاناً للبغلةِ التي سَتشتريها لهُ، كيْ يحرثُ للناسِ أرضَهم، ويقبضُ أجرةً ينفقُ منها على أولادِهِ وبناتهِ.

منذُ عشرينَ عاماً وهيَ تعيدُ هذا المشروعَ، إذْ خرجَ من ذِهنِها بعدَ أنْ لاكتهُ كثيراً، فصارَ الناسُ على علمٍ بهِ، وما كانتْ تخشاهُ من حسدٍ، لم يحصلْ أبداً، لذلكَ فقد ذهبتْ يوماً لمُعلِمِ البناءِ في البلدةِ, وراحتْ تساومُهٌ على أجرتِهِ، وتُناقِشُهُ مناقشَةَ خبيرٍ في البِناءِ، وهو يوافِقُها على ما قرَّرته من أجرةٍ وما قدّرتهُ من تكاليفِ البناءِ، فلم يَبقَ إلا أنْ يرسلَ ابنُها الدولاراتِ بالبريدِ المسجّلِ، وتضعُها في علبةٍ حديديةٍ، تخبئُها تحتِ العتبَةِ، ولنْ تراها الأعينُ ولنْ تُذيبُها المياهُ ولنْ تأكلُها الفئرانُ.

وما لَبثتْ أنْ عَدّلَت في مُخططاتِها كما تشتَهي أو تفرِضُه الظّروفُ المتغيّرةِ، فالبغلةُ ما عادتْ صالحةً للحرثِ، فالتراكتور الأحمرُ أفضلُ وأقوى، وأجرتُه أعلى وقدرتُهُ أعظمُ، فصاحبُ المهرةِ ما عادَ في مكانهِ المرموقِ، فالآنَ صاحبُ السيارةِ الحمراءِ والتراكتورِ الأحمرِ هما الأكثرُ ألقاً، إذاً … عليها أنْ تشتري أرضاً أكبرَ منَ السّقيفةِ ومُحيطِها، وتبنِيَ غُرفتيْن واحدةُ لها والأُخرى لابنِها وزوجتِهِ، وفَطِنتْ أيضاً لمكانٍ يكونُ مَطبخاً، غرفة صغيرة لموقدٍ أو بابورٍ، وبعضُ المونةِ مِنْ بَصلٍ وبُرغُلٍ وعَدسٍ، ومشاجبُ تعلّقُ عَليها الأوانيَ والصّواني، وبعيداً عنْ المطبخِ مرحاضٌ لا تَصلهم رائحتُهُ، وبئرُ ماءٍ تُملأُ بماءِ الأمطار .

لم تشعرْ أنَّ المدَّةَ طالتْ أكثرَ مما يَنبغي، فهيَ موقنةٌ أنَّ اليومَ الذي سَتستلِمُ فيه رِسالةً مُسجلةً مِنْ مكتبِ البريدِ المُتواضِعِ، قريبٌ جداً، فَدائماً تَجدُ الأعذارَ المقنِعَةَ التي تَحولُ دونَ وُصولِ البريدِ المُسجّلِ، فكَمْ أجّلَتْ فريضَةَ الحجِّ التي تَتمَناها سنةً بعدَ سنةٍ، وتَحدَّثتْ عنْ انتظارِ الرسالةِ المسجَّلةِ التي سَتأتي باسّمها، ولم يَسألها الناسُ إنْ كانتْ تملكُ تكاليفَ الحجِّ، فَهمْ يَروْنها تَسبَحُ في حلمٍ لذيذٍ، وليسَ جميلاً أنْ يُخرجَها منهُ أحد، لكنْ رَغمَ أناتِها وصَبرِها فقدْ حاوَلتْ أنْ تذهبَ للبريدِ ظناً أنَّ الموظّفَ أهمَلها، أو أشكَلَ عليهِ الاسمَ فهيَ الحاجّةُ ربيحة أمُّ ربحي بنتُ راجح أبو رباح، فعليها أنْ تنبهُهُ للاحتمالاتِ، لكنّهُ ردَّها بحنانٍ حَرصَتْ عليهِ كلُ البلدةِ، ومضَتْ تُمارسُ الانتظار.

لكنّها في المرّاتِ التاليةَ كانتْ أقلَّ براءةً وأكثرَ اتّهاميّةً، فهلْ أهمَلوا رسائِلَها عمداً أو أسقطوها في لا مُبالاةٍ؟ أو هناكَ مَن يدفعُهم للكيدِ لها؟ أو هُناكَ مَن سَرقَ الرسالةَ وباعَ الشَّكَ بدولاراتٍ كثيرةٍ؟ وما اقتنعتْ بكلِ الأعذارِ والأقوالِ اللطيفةِ الموقَّرةِ لها ولِسنِّها، بلْ وجدتهُ غطاءً لكذبةٍ كبيرةٍ يشتركونَ فيها، فِسقطَتْ في بكاءٍ مريرٍ وبكتْ القريَةُ مَعها على أمٍّ فقدتْ وحيدَها مِن زمنٍ مازالت لا تدريه، فقد تواطَأت القريةُ على أنْ لا تُعلمها الخبَر، رِفقاً بها وبِحالتِها الصَّحيةِ التي لا تحتملُ المفاجَأةَ.

ولَعلَ حالتَها استهوَتْ فتياناً مِن السوقةِ المبتَذَلينَ، الذينَ رَأوا في اختلالِ عقلِها مجالاً للعَبَثِ، فَراحوا لَها بِوَرَقةٍ يدَّعُونَ أنّها ورقةَ شيكٍ مِن ابنِها، فحَمَلتها وقلبُها يقفزُ خارجَ صدرِها إلى المُختارِ الذي تفاجَأَ بالموقِفِ، وهيِ تقولُ لهُ ولُهاثُها مسيطرٌ:

– أرأيتَ…! ابني لا يَنساني، ابنِي وعَدني أنْ يُرسلَ لي كلُّ شهرٍ مبلغاً، خبِّئ الشكَّ جيداً، واصرِفهُ لي مِن المدينةِ، فسَوفَ ابحثُ لهُ عَن عَروسٍ وأبنِي لهُ بيتاً جَديداً واشتري لهُ تراكتورا و…و…

أغرقتهُ العجوزُ في عاطفةٍ شلّتْ تفكيرَهُ، فماذا يقولُ لَها، وجَدَ نفسَهُ يُطمئِنُها ويؤكدُ حرصَهُ على الشّيكِ، الذي أخذَهُ بعنايةٍ إلى مِحفظتِهِ، واعِداً إياها بصَرفِهِ في الغَدِ مٍن المدينةِ، إذْ أحضَرَ لها خمسينَ دولاراً سلَّمَها لَها، فرَقَصَتْ بها حَتى أُغشِيَ عَليها وسَقطَتْ هامِدةً وما عادَتْ تتنفَسُ.

على أديمِ المَقبرةِ كانَ الناسُ مَحزونينَ، يَتناقشونَ إنْ كانَ ما فعلهُ المُختارُ قدْ قتلَها بتحقيقِ أمنيةٍ لها مِن جيبهِ الخاصِّ، بعدِ طولِ انتظار، أم أنهَ الحُلمُ الذي أنهَكها، وتجلّى لها خِنجَراً أصابها في الفؤاد .

المزيد من اعماله

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: