فدوى خصاونة

التاب الأحمر – فدوى خصاونة

التاب الأحمر – فدوى خصاونة

كنت أنظر إلى أبي على أنه الجسر العاطفي الذي يربطني بالأهل والعائلة، وكنت أراه مخلِّصاً ومنقِذاً لي من كل أسباب التشرد والضياع ؛ فقد كان أبي يعرف زوجته ويعرف دهاءها ومكرها ويعلم تماما أنها ترفض الجميع وتكره الجميع ولكنه ماسورا لأبنائها ومحكوما لرغباتها ؛ لكل هذا حاول أن يهيىء لزوجته كل أسباب الرضى فكان يتجاهلني ويهملني تماماً ولم يكن يعبأ باحتياجاتي ورغباتي و يريد من أمي أن تتحمل وتصبر و تسكت عن كل هذا الظلم .

ولكن أبي لم يكن يعلم أنني طفلة ولي مشاعري وآفاقي
ولم يكن يعلم أن أمي تسامح في أي أمر إلا أن يصل إليّ فإنها تفقد صبرها وطاقتها ولا تعود قادرة على بذل المزيد من التحمل والصبر .

ذات أمسية ظننتها ستكون مختلفة بمجيء والدي إلينا حاملا معه هدية لي “تاب أحمر” أخبرني : لقد جلبت هذه الهدية لأجلك (اختاره لي هدية) . فرحت بالهدية كثيراً وخاصة أن الأحمر لون أمي المفضل .
هذه المرة نظرت إلى أبي وكأنه قلب نابض يفيض بالحب والحنان .
أحسست أنني أراه لأول مرة ، فأمضيت وقتاً طويلاً باللعب بهدية أبي وتعلقت بها حبا واندفاعا، ولم أكن أصدق نفسي وأنا أشير بإصبعي على الشاشة وأختار التطبيقات والألعاب ؛ وبدأت أشعر بالنعاس فغلبنى النوم واستسلمت تاركا التاب فوق رأسي .

وفي الصباح صحوت مبكراً فأنا على موعد مع الفرح مع الألوان كنت على موعد مبكر مع السعادة فأمسكت (التاب) بشغف لأكتشف المزيد من الألعاب ؛ كنت منبهرا بتلك الألوان والموسيقى المرافقة .
أحسست أن أبي منحني روحا ملونة جميلة ، وأكثر ما شدني لعبة العدد فتلاعبت بالأرقام وحسبتها في مخيلتي لأكتشف أنها نفسها الأرقام على شاشة التاب ، نعم النتيجة كما توقعتها تماما .
لقد نسيت كل شيء وأنا في حالة شرود ودهشة ، ولكن يبدو أن الأمر مختلف ، اليوم يدخل أبي بيتنا مبكرا على غير عادته ، اعتقدت أنه جاء يطمئن إلى بهجتي وفرحتي بالهدية ، يريد أن يسمعني كلاماً جميلاً لأستعيد فرحي وشغفي بالحياة ، ولكن فوجئت بيد أبي تمتد نحو التاب ليأخذه من بين يدي الصغيرة ، ولا زلت مقتنعة وواهمة بأن أبي إنما جاء ليراجع معي الألعاب ويزودني بطاقة من الحب والسعادة ، و لكن آمالي تبددت وتطايرت في نسمة هواء .
أبي يأخذ التاب ويسلبه مني دون عطف أو رحمة وينظر إليَّ ويقول: أن هذا التاب لا يناسب عمرك ، ويناسب عمر أختك.
إنها سمر في كل مرة تسلب فرحتي وتنتزعها ، سمر أختي غير الشقيقة كانت تكبرني بسنة واحدة .
أبي يأخذ التاب ليعطيه لها مع العلم أن أبي جلب لها تابا مثلي ولكن زوجته خبأته وادّعت أنه يحتاج لإعدادات .
حتى إنها تفضل أن تكسره على أن ألعب به ، لقد اقتلع أبي فرحتي من جذورها ووأد طفولتي في تابوت من الظلم والشر ؛ فلم يبق لدي أي شعور بطعم الحياة .
أخذ أبي التاب الأحمر الذي قضيت وقتا طويلا وأنا أفكر كيف سأجعل الجميع يأتون للعب معي ؛ فالأطفال عادة ما يجتمعون عندما يرون لعبة جميلة .
كنت سأخبر الجميع أن لدي تابا يحتوي ألعابا جديدة و كثيرة ومختلفة.
كنت سأتحدث عن تلك الألوان ، وعن تلك العصافير وكنت سابث فرحي وأجعله ينتشر في الفضاء ؛ ولكن كل أحلامي تبددت وانهارت وذهبت أدراج الرياح.
إنها زوجة أبي التي أعرفها، لابد أنها أمضت ليلتها بقلق شديد وهي تفكر كيف ستحرمني من هذه الهدية.
هي لا تريدني أن أحصل على أي شيء من أبي ، تريد أن تحرمني كل شيء، تريد أن أعيش مهملة وحيدة.
فأوعزت إلى أبي : أن أختي أمضت تلك الليلة حزينة لأجل التاب ، وأن الأطفال عندما ينامون بحزنهم فإن ذلك يؤثر على ذكائهم ونموهم وحركتهم ، حزن الأطفال يؤثر على علاقاتهم ونطقهم .
هكذا قالت لأبي واستعطفته وجعلته يسير نحوي دون مراعاة لحزني وألمي ، وكأن عالم الطفولة محرم على مثلي ، مباح لمثل أبنائها.
لم يراعي أبي تعلقي بالهدية ولم يأبه بفيض حزني ومشاعري .
بمنتهى القسوة حرمني الهدية ورغم بكائي ورجائي أن يدعه معي إلاّ أنه مضى مغلقاً كل المنافذ على قلبي وفرحي الطفولي البريء.
لقد هربت سعادتي واستسلمت لإرادة الشر وفكره الملوث كل هذا حدث رغما عني ودون علم أمي .
وما هي إلا لحظات حتى حضرت أمي من المطبخ منهكة تتصبب عرقاً .
وأخبرتها : أمي لقد جاء أبي وأخذ التاب الأحمر .
أخفت حزنها وألمها ومسحت على شعري بيديها لتغرقني بالحب والحنان مدّعية أن التاب لا يناسب عمري وقالت : إنها لاحظت أنه يناسب عمراً أكبر ، ادّعت أمي ذلك لتحول دون حزني وألمي .
لكن كل محاولاتها لم تمسح من مخيلتي تصرف أبي القاسي وموقفه المؤذي لمشاعري .

كان لحضور أمي الجميل العطوف دور كبير في صقل شخصيتي وتجاوزي لكل ذلك الظلم والقسوة والمعاملة غير العادلة ، عوّضني حنانها ، وأطلقني مع مرور الزمن إلى آفاق رحبة .

ومع كل ذلك لا زلت أتخيل أختي سمر وهي تتمتع باللعب وتسعد بكل تلك التقنية ؛ وكنت أتمنى أن يمنحني أبي سعادة كتلك السعادة التي تملكها أختي لأصحو من مخيلتي على صوتٍ وكلماتٍ أخرجتني من دوامة أفكاري وشرودي :
إنه صوت أختي المدللة سمر وهي تصيح بأعلى صوتها : لن أسامحك يا سيف ، سأخبر أبي أن غيرتك القاتلة دفعتك لكسر التاب الذي طالما حلمت فيه.

المزيد من اعمالها

About abdulrahman alrimawi_wp

Check Also

الحقيقة العارية

الحقيقة العارية – اختيار د. ريمان عاشور

الحقيقة العارية من روائع الأدب العالمي: هذه اللوحة اسمها "الحقيقة العارية" أو "الحقيقة تخرج من البئر". للفنان الفرنسي جان ليون جيروم رسمها سنة 1896 م . . !

%d bloggers like this: