ابن الشاطئ في المكتبة الوطنية في الجزائر العاصمة ،”تقاذفته المدن وسكنته جيجل”..على لسان سفانة -2

كلنا نكاد نكون مقيدين بلا قيود بحب آبائنا ، أعلم ذلك جدا ولكن لكل منا طريقته في التعبير عن هذا الحب و في اختيار الوريد المبهر لإيصال تلك المشاعر فكيف ستكون هذه المشاعر بعد الفراق الحتمي و كيف تتحول تدريجيا لتصل للذروة في لحظة احتدام مع الذكريات خاصة حين يكون الانطلاق من خلال صديق للوالد رحمه الله أومن خلال أحد الصحفيين المميزين أو أحد الكتاب أوالشعراء ، فيأخذنا لعالم كنا نعتقد أننا  نعرفه جيدا ،

حين قرأت لأول مرة ما كتبه الإعلامي  سهيل الخالدي عن الوالد رحمه الله تألمت كثيرا لكنني أيضا تأملت طويلا في كل كلمة نثرها  قلمه الوارف فشعرت وكأنني في رحلة أسطورية بين الواقع و الذكريات اختلطت فيها المشاعر حتى بت عاجزة عن التعبير رغم كم ما راودني من أفكار وصور من الذكريات تعاظم معها ما في داخلي من فخر وحزن .

نعم لا يمكنني الآن أن أصف تلك الحالة المتأرجحة و أنا أراقب تلاطم الحروف على السطور وتعمدها جري لماراثون الحب والاشتياق أو تحويلي لمتسولة في أزقة الفقد أبحث عن رغيف حنان من قلب طالما منحني الكثير بلا تردد

نعم عشت بين الدهشة و الإعجاب لأنني رغم يقيني بمعرفة كل ما حدث مع والدي رحمه الله لكن من خلال هذا المقال اكتشفت أن هنالك المزيد بل الجديد أيضا

حتى استيقظت على طيف الوالد حمه اللهويده العطوفة تربت على كتفي نظراته التي تفيض حبا وحنانا وتذكرتحرصه الشديد على رهافة مشاعري و التي لا تستطيع تحمل أي خبر حزينعنه أو تعرضه لأبسط معاناة .

عدت إلى أناي أصغي لصوت في داخلي يردد: ” رحمك الله يا والدي الحبيب فرغم مرور سنوات على فراقك إلا أن الزمن لم يتوقف عند تلك اللحظة الأليمة فقد بتنا باستمرار نقرأ أو نسمع عنك ما يثلج القلب ويزيدنا فخرا واعتزازا بك وبسيرتك العطرة ” كنت تراقب حركاتي وكلماتي ومشاكساتي لك وحين كبرتتحولت لـــ “مستودع أسرارك” هكذا كنت تحب أن تناديني، لكن مع الوقت تبين أن هذا المستودع لم يتسع لكل تلك  الأسرار ربما كي يتعاظم في داخلي الفخر والاعتزاز فما أجمل أن أتعرف عليك يا والدي الحبيب من خلال عيون و قلوب الآخرين لذا سيكون جميلا أن أنتقل لهذا المقال الصحفي الذي يحمل في ثناياه أحداثا عديدة مرت معك وقبل أن أرفع الستار لن يفوتني أن أشكر  الإعلامي سهيل الخالدي على ما تفضل به في هذه الشهادة الباذخة .و التي نشرت عن جزئيين

الجزء الأول:

معظم الناس لا يعرفون عن الشاعر الفلسطيني الكبير إسماعيل إبراهيم أحمد شتات المعروف باسم ” ابن الشاطئ” سوى أنه معلم عاش في الجزائر، التي أحب، مدة طويلة من الزمان وشاعر وطني يركز على عمود الشعر·

هذا مجمل ما يعرفه الناس عن هذا الشاعر الصديق الذي كتب عنه الشاعر المصري صالح جودت في مجلة ”الهلال” في سبعينيات القرن العشرين الماضي، كلمة بعنوان ”شاعر فلسطيني واسمه شتات”، لكن سأحدثكم اليوم عن جانب كان يخفيه شتات عن كل الناس، ربما حتى عن أولاده هزار وعدي، ولكني أحار من أين أبدأ،

كان بيني وبين ابن الشاطئ نقطة فلسفية مهمة نتلاقى فيها، فكلانا لا يجيد فن العيش، لا نبحث عن منصب ولا مال ولا دعاية، وليس لدينا من الهموم سوى الهم الثقافي·· لذلك كثيرا ما كانت سيوف الحياة اليومية تنهشنا وبأيدي أصدقائنا، ومع ذلك لم نكن نئن·

وذات يوم من عام 2004 التقينا منفردين في غرفة في فندق الأوراسي بمناسبة ثقافية وطنية، لذلك كان الحديث طويلا، خاصة وأن مأساتي التي تعرفون كانت قد بدأت، فسألني:

– كيف تمر أيامك·· هل أنت مثلي مصمم على أن تموت في الجزائر رغم كل ما نلاقيه، كيف تعيش يا رجل؟

– معركة الجزائر التي فتحت عام 1954 لم تغلق بعد أليس جميلا أن نموت فيه ، لماذا لم تتركها؟

– ولكن كيف تعيش·· وأنت بلا سكن·· وبلا عمل·· وها أنت كبرت، هل بقيت لديك أنفاس للعناد؟

– هنا بعض الأصدقاء الجزائريين لم يتركوني أموت، ومنهم صديقنا عبد القادر السائحي·

– هنيئا لك يا سهيل صبرك العنيد وشخصيتك المتماسكة، فأنا كما تعلم تخلى عني الأصدقاء القدامى الذين تعرف رغم أني لست بحاجة مادية ولي سكن·· وأولادي شقوا طريقهم، لكنك أفضل مني فها أنت تجد أصدقاءك، وأنا في شبه عزلة في جيجل التي أحبها فهي تذكرني باللاذقية·

– لا تحزن، فالجزائر ستعوضك كل شيء، ألست أنت القائل أمام كل الأدباء العرب في المربد:

وإن سهم أصابك في بلاد ففي أرض الجزائر لن تصابا

– ولكنك أصبت فيها يا صديقي، أيها الجزائري الذي أنرت في المشرق فأطفأوك في المغرب··

وأرسل ابن الشاطئ تنهيدة وكأنه بحر غزة الذي ولد قريبا منه، يرسل موجة أسى وحزن، فقد ولد إسماعيل عام1939 في بلدة الجسير الواقعة على طريق غزة الخليل، لكن من يعرف الذين كان يعنيهم ابن الشاطئ بكلامه··

إنه سره الذي أخفاه طويلا وأسمح لنفسي اليوم، وقد صار الرجل في ذمة الله، أن أبوح لكم به·· حتى نعرف جميعا لماذا فشلت حركة التحرر العربي، فوصلت بنا إلى سنوات المذلة التي نحن فيها مشرقا ومغربا·

كان ابن الشاطئ في خمسينيات القرن الماضي أصغر حزبي في العالم، فقد انضم إلى عضوية حزب البعث العربي الاشتراكي في مدينة الخليل وهو في الرابعة عشرة من عمره، وأقول عضوا ليس مؤيدا ولا نصيرا ولا طالبا·· وقد تمكن الحزب من اكتشاف مواهبه من خلال إذاعة القدس التي كانت مبانيها في رام الله، وكان يقدم فيها وهو إبن الحادية عشرة قراءات شعرية·· فقد كان فتى بموهبة واعدة·

حصل ابن الشاطئ على شهادة (الماترك) الأردني وهي شهادة تعادل شهادة ماتريكوليشن لندن، فلم يكن في الأردن وقتها نظام الثانوية العامة المعمول به حاليا، وكان عدد الذين يحصلون على (الماترك) قلة·· وليس المهم هنا أن الفتى إسماعيل حصل على هذه الشهادة التي تقدم امتحاناتها باللغة الإنجليزية، بل كيف حصل عليها؟··

تم ذلك وهو في السجن، إذ سجنته السلطات الأردنية بعد مشاركاته في المظاهرات العنيفة ضد حلف بغداد التابع لحلف الأطلسي تلك المظاهرات التي منعت الأردن من دخول الحلف وأودت بالمبعوث البريطاني تمبلر·· وكان حزب البعث حينها هو الذي يقود الحركة الوطنية الفلسطينية الأردنية وعلى رأسه شخصيات مثل: المعايطة، الريماوي، أبو غربية وكمال ناصر·· ومحسن أبو ميزر· ومن السجن تقدم إسماعيل شتات لشهادة (الماترك) ونجح، فأطلقت السلطة سراحه، بل عينته مدرسا في مدينة الخليل·· عله ينضبط، لكنه ظل مشاغبا·· فنفته إلى مدينة الكرك جنوب الأردن، ومدينة الكرك وحدها حكاية في التاريخ السياسي الأردني·· فهي قريبة من شمال المملكة العربية السعودية، وهي على الطريق التاريخي القديم نحو مصر، وذات نظام عشائري عمره من عمر الزمن، وفيها النصارى، وفيها المسلمون وكلهم من البدو ويعتزون في تاريخهم بأنهم من أوائل الذين تصدوا للصليبيين في عهد صلاح الدين·· وكان النظام الأردني يعتبر هذه المدينة وعشائرها قلعة من قلاعه ودعائمه ومنها رئيس حكومته وقائد جيشه، ولم يكن يتصور أن فتى مثل إسماعيل شتات سيخترق قلعة كهذه·· لكن إسماعيل تعرف على مجموعة من خلايا الحزب فيها بعضهم من آل المعايطة وبعضهم من آل المجالي وبعضهم من آل القسوس·· وعائلات وعشائر أخرى وكانت النتيجة خارج تصور كل الأجهزة، فقد كانت أعنف المظاهرات ضد النظام تخرج من هذه البلدة·· لكن ابن الشاطئ وقع في الفخ، فقد استطاعت الأجهزة أن تستقطب الوسيط بينه وبين الحزب لحسابها، فيسلم هذا الرسائل المتبادلة بين الطرفين إلى الأجهزة التي تعيد نسخها أو تصورها بالكاميرات الفوتوغرافية، إلى أن وقع إسماعيل فزجت به هذه المرة في سجن الزرقاء العسكري بحكم طوله 17 سنة·

كان سجن الزرقاء العسكري يقع داخل معسكر الزرقاء وهو أكبر معسكر أردني أسسه الجيش البريطاني في فترة الحرب العالمية الثانية·· وأما مدينة الزرقاء التي كنت أسكنها في فترة الخمسينيات تلك؛ فمعظم سكانها من عائلات الجنود ومن بدو عشائر بني حسن والشيشان الذين هاجروا من القوقاز وبعد 1948 أقاموا فيها مخيما للفلسطينيين ليتم ضبطهم تحت عين ذلك المعسكر·· وقليلون هم السجناء السياسيون في الأردن الذين لم يمروا بهذا السجن الذي يعتبر ثاني سجون الأردن رعبا بعد سجن الجفر المخصص للشيوعيين· وبقدرة قادر استطاع الفتى إسماعيل شتات أن يشتت أنظار حراسه·· ويركب القطار المتبقي من خط سكة الحديد الحجازي الذي بنته تركيا فلا يتوقف إلا في محطة الحجاز بدمشق التي سرعان ما غادرها الفتى الهارب إلى بيروت·

وهنا، سأفاجئ تلاميذه ومحبيه في الجزائر ·· فأقول عمل الشاعر ابن الشاطئ الذي يحب العربية حتى النخاع عمل في ثانويات بيروت مدرسا للإنجليزية والرياضيات أيضا·· وأضيف لكم مفاجأة أخرى، فقد كان في بيروت يعمل محررا أدبيا في بعض صحفها ومحررا سياسيا في جريدة كان يصدرها الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه الزعيم اللبناني كمال جنبلاط شخصيا·· ولأن أجهزة الأمن تنسق مع بعضها وجد إبن الشاطئ نفسه بحجة صراعات لبنانية محليه ملقى به خارج الحدود·· في سوريا·

والسوريون لا يسألون العربي عن بلده ولا عن دينه، فما دام عربيا فله ما لهم وعليه ما عليهم، فاستقر ابن الشاطئ في اللاذقية وعمل معلما بل تزوج بكريمة إحدى عائلاتها الكبيرة وشارك في تأسيس رابطة أدباء الساحل، لكن ابن الشاطئ لا يكل ولا يمل من البحث عن كيان سياسي يستوعبه ويحقق فيه وبه طموحاته الوطنية والقومية العالية، فانضم إلى حركة التحرير الفلسطيني (فتح)، خاصة وأنه رأى بعض رفاقه القدامى ينضمون إليها ونفذ عدة مهام سياسية وعاد مقاتلا إلى الأردن باسم آخر وبطاقة أخرى، وبعد الحرب الأهلية بين المقاومة والنظام في أيلول عام1970 وتهجير المقاومة إلى لبنان، وتشتت إسماعيل شتات مدرسا إلى الجزائر أو ليس هو من كتب عنه الشاعر المصري صالح جودت مقالة بعنوان ”فلسطيني واسمه شتات”·

وامتدت نشاطات أبو عدي إلى الصحافة والإذاعة، فعبر الإذاعة الجزائرية وبدعم هام من صديقيه المفكر الجزائري الطاهر بن عيشة والشاعر المعروف بخفة الدم وجزالة الشعر المرحوم محمد الأخضر السائحي الكبير؛ قدم ابن الشاطئ الكثير من البرامج الموجهة إلى المشرق العربي، وغنت قصائده كبار المطربات الجزائريات، وفي نفس الوقت كان يطمح إلى أن يكون شاعر الثورة الفلسطينية·· وقد كاد··

وفي السبعينيات كان يقدم في أسبوعية ”المجاهد” -حيث تزاملنا-صفحتين أدبيتين بعنوان ”مرايا أدبية”، وقد اشتهرت هاتان الصفحتان في الصحافة الأدبية العربية، وكان يرعى من خلالهما المواهب الشعرية الجزائرية·· وقد أخذت كثير من الصحف الأدبية العربية بل والأعمال التلفزيونية هذه التسمية وكأنها اكتشفتها من جديد·· وكان يشجعني على الشعر لكني لم أكن مشروع شاعر فخيبت أمله· ومن المواهب الشعرية التي رعاها وقاد خطواتها الشعرية الأولى الشاعرة الجزائرية الشابة آنذاك أحلام مستغانمي التي أصدرت ديوانها الأول ”على مرفأ الأيام”، وبصمات شاعرنا واضحة على قصائد ذلك الديوان، ولكن أحلا م تحولت من الشعر إلى الرواية، ولم أقرأ لها شيئا عن مرحلتها الشعرية ودور ابن الشاطئ فيها·· فلعلها تكتب يوما·

الجزء الثاني

بدأ ابن الشاطئ الذي استقر وأنجب يختلف مع توجهات المقاومة الفلسطينية نحو التسوية·· وقد استشعرها من صديقه أبو خليل (أحمد وافي) ممثل حركة ”فتح” في الجزائر آنذاك، وأخذت خلافاته تتصاعد حتى وصلت إلى قمة الهرم الفلسطيني، إذ كانت مفاهيم ابن الشاطئ الوطنية مفاهيم شاعر: لنا الصدر دون العالمين أو القبر، ولا تنازل عن ذرة تراب فلسطينية من النهر حتى البحر·· فلم تكن له أية علاقة في المنطقة الرمادية التي يتحرك فيها الساسة·

كان ابن الشاطئ خلال عملنا في ”المجاهد” يحظى باهتمام خاص من قياداتها شريف سيسبان رئيس التحرير وخليفته محمد سي الفضيل وسكرتير التحرير محمد رزاق لبزة والمدير العام الأستاذ الكبير محمد مبارك الميلي وزوجته الأستاذة الصحفية زينب الميلي، وكانوا يقدرون شاعريته وجهده الأدبي ورعايته للمواهب الجزائرية الشابة·

وفي تلك المرحلة بدا ابن الشاطئ رمزا محاصرا لشعر الرفض العربي·· خاصة حين وقف في مؤتمر الشباب العربي وألقى قصيدته الرائعة:

من جذر الثورة يا أمي

أتنفس دائرة الرفض

فأحطِّمُ أسوار المنفـى

وأُمَصْمِصُ أثداءَ الأرضِ

وبدت هذه القصيدة وكأنها تصنع السطر الأخير في صفحة علاقات ابن الشاطئ مع حركة ”فتح” وتيار التسوية في الساحة الفلسطينية·

لقد رفض الجميع وبدا وكأنه يبحث عن عزلة·· وجال كل مناطق الجزائر يمكث في كل منطقة عاما أوعامين، مرة في الغرب، ومرة في الشرق·· بحثا عن عزلة ولم يقتنع أبدا أن الغليان والصخب في داخله هو فمن أين يأتيه الهدوء؟

لكن بعض أصدقائه القدامى جدا أقنعوه أن النظام في العراق يشكل نقطة مضيئة·· وذهب إلى بغداد فعلا، وأحيط بالرعاية فعلا·· لكنه رأى ما رأى، فقفل عائدا إلى تلاميذه يلفه الحزن على موت صديق له كان يرى فيه شمعة من بين هؤلاء الأصدقاء الذين بهرتهم مغريات السلطة··

بقي له صديق عربي فلسطيني واحد لم تغره سلطة ولم يجرفه تيار، بل اختلف مع تيار التسوية الطاغي في حركة المقاومة الفلسطينية·· حيث كان ابن الشاطئ يقول أصدقائي المناضلين الذين لم تدجنهم سجون الأردن دجنتهم بيروت··

أسس هذا الصديق القديم فصيلا أسماه حركة التحرير الشعبية العربية، ولكن سرعان ما اختلف هذا الصديق مع أصدقاء العراق على خلفية الإعداد للحرب مع إيران·· فتشرد هو الآخر أيضا لكن ابن الشاطئ انضم بعد ذلك إلى هذه الحركة التي لم يكتب لها أن تعمر طويلا··

وهكذا، عاش ابن الشاطئ حياته باحثا عن حزب نظيف، وعن صديق يبكي همومه القومية على صدره، لكن أين هو الحزب السياسي الذي يرضي رومانسية شاعر، وأين هو الصديق الذي يستمع إلى النبض القومي للناس وينسى همه الشخصي··؟؟

راهن ابن الشاطئ على الجيل الجزائري الجديد·· وهو الرهان الوحيد الذي كسبه·· فقد رأى تلامذته يعتلون صهوة الشعر في الجزائر·· بل أن بعضهم اعتلى منابر شعرية في المشرق العربي وأبدع·· وأظنهم سيوفون الرجل حقه ذات يوم··

توفي اسماعيل في آخر شهر أبريل نيسان 2007 ولم يجد من يبكيه سوى أصدقاءه وتلامذته في الجزائر، وخاصة في تلك التأينية التي أقامها الدكتورامين الزاوي خلال وجوده على رأس المكتبة الوطنية، فرغم التباين الفكري بينهما إلا أن أمين الزاوي حفظ للرجل جهده وجهاده على طول الساحة الأدبية العربية وكذلك التأينية التي أقامتها جمعية محمد الأمين العمودي الثقافية في واد سوف·

ويبدو أن تلك الندوة التأينية قد أشعرت أصدقاءه القدامى جدا في المشرق العربي بالندم أو بالتقصير، فاتصل بي أحدهم قائلا: جهز نفسك لتلقي كلمة في تأبينيه نقيمها لابن الشاطئ·· وما زلت أنتظر·· ويبدو أن ابن الشاطئ رغم موته ما زال اسمه مقيدا عند الأجهزة في قائمة الممنوعات·

ترك ابن الشاطئ أكثر من 60 ديوانا شعريا لم يطبع منها سوى أحد عشر· وأما قصائده السرية في هجاء الأنظمة العربية والتي كان يتداولها الناس فلايعلم عددها أحد·

رغم أهمية شعر ابن الشاطئ·· فإنه لم يجد ناقده حتى الآن·· فهو لم يكن صاحب شلة أدبية تتبادل الورود وتحمي بعضها بعضا، ومن ناحية أخرى كان شعره يصعب على نقاد آخر موضة الذين يفهمون في فن العلاقات العامة ولا يفهمون الأدب شعره ونثره·· فابن الشاطئ كان يكثر من التضامين والأقواس والإحالات والإشارات التاريخية والجغرافية، فتجد في القصيدة الواحدة ألفاظا جاهلية وألفاظا حديثة وإحالات ثقافية وأخرى سياسية·· وكأنه يريد أن يجمع أول الدنيا وآخرها في قصيدة واحدة، بل في بيت واحد·· فمن من هؤلاء النقاد يفقه كل هذا معروضا بالبساطة واللغة الصافية·· فهذا يحتاج إلى ثقافة خاصة·

ويكفي ابن الشاطئ أنه هو الذي قال بعد مجازر أيلول 1970 في قصيدة يخاطب فيها العاصمة الأردنية عمان يؤكد فيها انتماءه العربي وإيمانه الذي لا يتزعزع بالأمة رغم كفرانه بالأحزاب:

عمّان··!! جئتكِ فوق صهوة ثائرٍ

عشقته (جِلَّق)·· وانتخته عُمـانُ

وعلى لظى جفنيه مُهرة عاشـقٍ

من (تَلْمِسان)·· تضمّها (حُلوانُ)

حلمتْ به بغـداد جـذوة أمّـةٍ

وهَوَتـه عبـر ضبابهـا لبنـانُ

جَدَلَته عكّا مـن سنابـل ليلهـا

فجـراً يُهَدِّبـه رؤىً قحـطـانُ

ومضى·· تغازل مقلتيه جراحه

والبندقيّة وجهـه الفتّـانُ!!··

عمَّان·· لستُ مسافراً فأنا هنا

أَجَلٌ يلوح·· وثورة·· وكِيانُ

جذرٌ أنا·· شعبٌ تمَدَّدَ وانتخى

وعلى مداهُ تُحَنَّـط الأوثـانُ

جذرٌ أنا·· قدرٌ يُطِـلُّ وأمّـةٌ

عربيّةٌ في صمتها طوفانُ!!··

فهل ما فيه الأمة العربية اليوم بعد طول صمت هو مقدمة الطوفان، أم هو طوفان بعده الصمت؟

آه يا صديقي أبو عدي، لقد تركتنا في أمة لم نعد نعرف صمتها من طوفانها، والميادين تبحث عن فرسانها وخيلها،

فرحمة الله عليك وكم هو سعيد ثرى حبيبتك جيجل الذي ضمك··

المزيد من اعمالها

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

الشاعر الكبير ابن الشاطئ وعلاقته الأزلية مع الجزائر /بقلم: سفانة بنت ابن الشاطئ

قبل البدء :رحلة دراسية شاقة تخلّلها نضال مستمر ضد العدو الذي جثم على صدر فلسطين …

%d bloggers like this: