صاحب كشك الكتب – د. ريمان عاشور
صاحب كشك الكتب ، الورَّاق، البسطَة على ناصية الشارع..
من حفظه الرصيف وانحفرت ملامحه على إسفلته، وشهدت حصاه على تجاعيد وجه رفيق الكتب المتوالدة يومًا بعد يوم، وسجَّلت على وجه الزمان لحظةً بلحظة كيف يبيَّض السَّواد وتشتعل نيران الزمن برؤوسنا.
الورَّاق من يضحي متمرِّسًا في قراءة أذواق الناس من صفحة وجوههم، من سيمياء لباسهم، من غبار أحذيتهم أو لمعانها.. من يلتقف الكتاب الذي تهمُّ بالسؤال عنه قبل أن تنبس ببنت شفة، وتقف مذهولًا مسائلًا نفسك: كيف علم أنني أريد هذا الحقل من الكتب! ولا تجد إجابة شافية.
في كلِّ مدينة سكنتُها أو زرتها ألفيتُ رصيفًا قد زُرِع فيه ورَّاقٌ متجذِّرٌ كشجرة جوز، لا تخلعها رياح الشتاء الباردة ولا يجفِّفها قيظ شمس الصيف..
والغريب الغريب أنَّ الخريف لا يمرُّ بها ويُسقط أوراقها.. تبقى يانعة على مرِّ السنين.. تجد فيها أوراقًا متسمِّرة لا تغيب، وأخرى متجدِّدة بتجدُّد أرواح غضَّة حالفها الحظُّ وانتشر عبقها.
تعلَّمت من الورَّاقين الذين مرُّوا بشريط حياتي كيف يمكن للرصيف أن يحترف الحكاية والتاريخ والسياسة والفكر والرواية ويقترف الشعر ويغلي فوق مواقد النقد والتأويل
علَّمني الورَّاق كيف يهندم الرصيف وينظِّمه، وكيف ينقلب إلى دولاب سيدة مترفة منعَّمة تملك من المقتنيات الكثير وتنظِّم كلَّ المتشابهات على رفِّ واحد فيستحيل دولابها “ڤاترينة” ساحرة..
تعلَّمت منه الوفاء للأرصفة، فالرصيف وطن في عين الورَّاق، وطنٌ تمارَس فيه كلُّ الحريَّات التي غابت عن أوطاننا، إذ لا مصادرة لحريَّة الحروف والكلمات.
علَّمني كيف ينجذبُ العالَم والمعنى، كلُّ العالم وكلُّ المعنى إلى بؤرة بعينها يتحلقَّان حولها لا يغادرانها.
علَّمني الورَّاق أنَّ الصبر صبر قراءة، وصبر إبحار بين أرواح من أوكلوه بمهمَّة اقتنائهم.
علَّمني الورَّاق كيف أقرأ الناس كما أقرأ الكتب، وأخرج من لقائهم كما أغادر الصفحة الأخيرة من كتاب، إمَّا أن يُزهر قلبي ويُفتن عقلي، أو يتفحَّم قلبي ويصاب عقلي بلوثةٍ إلى حين..
اسطنبول/٢٩-١ من عام الجائحة الثالث