قراءةٌ في قصيدة الرَّائيَّة.. للشاعرة عفاف عطا الله/ د. ريمان عاشور

قراءةٌ في قصيدة الرَّائيَّة.. للشاعرة حنين العربي (عفاف عطا الله)

قراءةٌ في قصيدة الرَّائيَّة
بقلم الدكتورة ريمان عاشور

سأقفُ أولًا في هذه القصيدة عند براعة الشاعرة في خلق مقابلاتٍ جُمليَّة أورثَت القصيدة موسيقى وإيقاعًا ينضاف إلى موسيقى الوزن والقافية المعتادَين في القصيدة العمودية: كما في قولها-والأمثلة كثيرة:
دهاؤكَ إغراءٌ/ حِلمكَ آسِر..
صمتك قوَّال/قولك قاطع..
سمْتكَ أخَّاذ/ ذهنكَ حاضر..
سخطُكَ جبَّار/ودِّكَ جابر..

وفي الوقت الذي تتلاعب فيه الشاعرة بالأثر الإيقاعي في نفس المتلقِّي وعالمه، رسمتْ -في الوقت نفسه- ملامح الشخصية الممدوحة رسمًا إيقاعيًّا اخترقتْ فيه الأسماع، حتى إذا ما أخذت أُذن السامع تألفُ هذا الإيقاع المرتبط بالتقابل والتضاد، ألْفَتْ كذلك في المعنى العميق تقابلًا وتضادًّا في شخصية هذا الممدوح..
ولكي تمعن الشاعرة في ترك الأثر الأعظم في نفس القارىء والسامع، أكثرتْ من سوْق صيغ المبالغة المضاعِفة للحدث في إدراك المرء ونفسه.

ويتضاعف الأثر كذلك في مساندة الموسيقى والإيقاع على تحقيق هدفيهما.. ومن ذلك قولها: قوَّال.. وقَّاد..أخَّاذٌ..فيَّاضٌ..قتَّال.. صيَّادٌ.. جبَّار.. الخ
إنَّ كثرة صيغ المبالغة وشيوعها في القصيدة على هذا النحو اللافت يرفعُ منسوب شعور المرء في تلقِّيه الحدث من تلقِّي حدثٍ بعينه، إلى مواجهة أحداث متطابقة ومتشابهة في زمن واحد، كمثل بلوغنا الصوت وصداه في عدَّة ترددات بعده..
هي هكذا تورث صيغ المبالغة في النفس، فما بالنا لو كثرت وشاعت في قصيدة واحدة يتشظَّى فيها الحدث نفسه تشظيًّا محيطًا من كلِّ جنبٍ وصوب.

بعد ذلك تصطدم بقافية رائيَّة متناغمة مع هذه الفكرة والمؤيَّدة لها، فالرَّاء في العربية صوت ٌيتأتَّى من تكرار صوت الرَّاء نفسه مرَّات عديدة متتالية تتاليًا متسارعًا، ويحدث صوت الراء نتيجة طرقة واحدة من طرف اللسان على اللثة، ويصدر الوتران الصوتيان عند نطقها نغمة موسيقية.. وهي بذلك(الرَّاء) حرفٌ صامتٌ مجهورٌ لثويٌّ مستلٌّ يُسهِم إسهامًا جليًّا في إضفاء نغمة موسيقيَّة إضافيَّة على الكليَّة التي أورثتها الجُمَلُ التقابلية والتضاد، وشيوع صيغ المبالغة بكثرة في القصيدة.

وتلك براعةٌ تُحتسب للشاعرة، كما أنَّها تميط اللثام عن ثراء معجمها اللغويِّ المُفضي إلى معنى ارتأتْه، وسعَتْ إلى إيصاله بهذه التقنيات البارعة، وذلك في تشييد بناء تألفه العين وتستسيغه النفس،كما في الأبيات الخمسة الأولى التي تحقَّق فيها غرض المدح.
وقد برعت الشاعرة -في هذه الأبيات- بالوصف الخارجي للموصوف، ولم تكن قد تورَّطت بعد في الكشف عن خلجات نفسها وخفاياها، كما لم تُفصح عن طبيعة العلاقة بين المادِح والممدوح، لتشكّل هذه الأبيات دفقةً شعورية واحدة تنقطع مع نهاية البيت الخامس.

ونقفُ عند بداية البيت السادس لنشهد نقلة جديدة، ودفقة شعوريَّة مختلفة، تُشركُ فيها الشاعرة (الذاتَ القائلة) أو المتكلّمة في القصيدة مع الممدوح ، بتلميح ذكيّ أبان عنه قولها :

“وعندكَ ما ترجو النفوس فكيف لا
تلذّ بما يروي النفوسَ الخواطرُ

وكيف لمن آدنيتهُ منك ساعةً
يقرّ له في وطأة البعد ناظرُ”

ولا يُخفى في هذه الآبيات والآبيات التالية أنّ ثمّة ذاتًا ثانية تظهر على استحياء؛ لترسم العلاقة بين ذاتي القصيدة، فإن حسبنا الذَّات الممدوحة هي الأولى، فإنَّ الذَّات المتكلِّمة في النَّصِّ هي الثَّانية المقصودة في قلقها وعدم استقرارها حين وطأة البعد والفراق اللذين تضجُّ بهما القصيدة حتى مبلغ منتهاها.
وذلك حين ألمحت الذات المتكلِّمة الثانية في القصيدة إلى أنَّ الهوى يُعمي البصيرة قبل البصر، وأنَّ ما يأخذُه الناسُ على العاشق في عشقه لمحبوبه، لا يراه العاشق سوى ميزات في المعشوق تسبَّبت في هذا العشق .

وعلى الرَّغم من محاولات الشَّاعرة في صنع انقلاب على الذَّات الأولى بعد مدحها كلِّ ذلك المدح، إلا أنَّ محاولاتها باءت بالفشل حين افتُضح عشقها لمحبوبٍ وإن لم يكن مستحِقًّا لكلِّ هذا الهوى .

يُحسب للشَّاعرة عفاف عطاالله أنَّ قصيدتها تلك كما التبر الخالص، في معجمها اللغويِّ، وجزالة ألفاظها، ومتانة بنائها، وتنوُّع أغراضها..
حتى ليشعر المرء أنّه أمام إحدى قصائد العصور الشِّعرية الذهبيَّة .

د. ريمان عاشور

 

دهاؤكَ إغراءٌ وحِلمكَ آسرُ
وحزمك فتّانٌ و عزمكَ ساحرُ

وصمتُك قوّالٌ وقولك قاطع
وقلبُك وقّادٌ وذهنُكَ حاضرُ

وسمْتُكَ أخّاذٌ ولفظُك مدهشٌ
وكفّكَ فيّاضٌ ووجهكَ ناضِرُ

ونُبلكَ قتّالٌ .. ونَبلُكَ فاتكٌ
وطرفُكَ صيّادٌ وحُسنكَ جائرُ

وعزُّكَ مشهودٌ ومجدُكَ شاهدٌ
وسُخطكَ جبّارٌ و وُدّكَ جابرُ

وعندكَ ما ترجو النفوسُ فكيف لا
تلَذُّ ..بما يروي النفوسَ .. الخواطرُ

وكيفَ لمن أدنَيْتَهُ منكَ ساعةً
يَقَرُّ له .. في وطأةِ البُعدِ .. ناظرُ

وهيهاتَ يسلُو منتشٍ بصبابةٍ
كؤوسًا سقاهَا .. من سماحكَ .. ماطرُ

وهيهات أنْ يجفو الحصيفُ فرادسًا
جنَاهَا .. على مدّ البصيرةِ .. وافرُ

وحسبُكَ منْ جاؤوكَ طوعَ قلوبهم
وحَسبكَ من ولّى قِلًى وهْوَ صاغِرُ

وحسبُكَ أن يخشاكَ من ألِفَ الخَنَا
وحسبكَ أن يَقْفو خطاكَ الأكابرُ

ترفّعتَ .. يدري كلُّ قالٍ ووامقٍ
وأنتَ على ردّ الإساءةِ .. قادرُ

لمثلكَ تسعى المكرُماتُ وأهلُها
وتُهدى لطيب الطّيب فيكَ المفاخرُ

فكيف لمن لم يعرف الضّغنَ صدرُه
يُلاحي صديقًا أو عدوّا يشاجرُ

وكيفَ لمَنْ لم يخشَ لومةَ لائمٍ
يواليه إلا من على الحَيفِ ثائرُ

أتَتْكَ المعالي وهْيَ تُلقِي بَعاعَها
على نَهَرٍ .. تزهو به وتُكاثِرُ

لئن أعْوزَ البدرَ الضياءُ لكي يُرى
فقد صارَ عدلًا أن تعمّ الدياجرُ

وإن يك أربابُ النهى في عمايةٍ
فكلُّ كلامٍ أقصدَ الحقَّ .. عائــرُ

غرائبُ ما انفكّت تنادي غرائبًا
يصلّي بها واشٍ ويأتمّ غادرُ

فياليت شعري .. ما نُمنّي بخلّبٍ
وواردُه بالإفكِ والزّيْفِ صادرُ

بُلينا بدهر ٍيشتكي الرزءَ رُزؤه
وناسٍ علينا ذي الرزايا تؤازرُ

تضيقُ ولكنّي لعينيك ألتجي
أشدّ بها أزري وفيها أُصابرُ

أفرّ إليها كلما مسّ طائفٌ
من الوجد بينا كنتُ منها أحاذر

فديتكَ مملوكًا وإن كنتَ مالكًا
وأفديكَ ملهوفًا وأنتَ المكابرُ

يلومون قلبي ! ويكأنّي ملكتُه
وأنتَ عليه اليومَ .. ناهٍ وآمرُ !

ألامُ على عشقٍ أغارَ بعارضٍ
مواهبُه أنّى استقلت بواكرُ !

غذاني نميرَ الشوقِ حلوًا وذاكيًا
فنمّتْ له منّي عليّ ظَواهرُ

سرورٌ وبشرٌ وانبساطٌ ونشوةٌ
وشعرٌ بمكنونِ الفؤادِ يُجاهرُ

وسهدٌ وسقمٌ واضطرابٌ وروعة
وعقلٌ إذا جاشتْ بكَ النّفسُ سادرُ

لواعجُ صدرٍ في القريضِ أبثُّها
يهيج بها صبٌّ ويأنسُ ساهرُ

بلى .. قيل لا أرضى بغيركَ خلةً
ولم ينهني عمّا ألاقيه زاجرُ

إذا الحبّ أودى بالقلوبِ وبالنّهى
فلا القولُ مرهوبٌ ولا العذلُ ضائر

وهبْ أنني أمسكت ُعنك جوارحي
أليسَ بداعي الحبِّ تعمى البصائرُ

لعمري لو انّ الناسَ تبصرُ في الهوى
لما سِيمَ كسرًا .. للقيامةِ .. خاطرُ

عفاف عطا الله

قراءةٌ في قصيدة الرَّائيَّة.. للشاعرة عفاف عطا الله/ د. ريمان عاشور

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: