من النسق إلى الدلالةمقاربة سيميائية للتكوين الجمالي”لقصيدة جنون السراب” للشاعرة د.وجيهة السطل بقلم: أمجد مجدوب رشيد ،

 

 

مدخل:

“عندما تعرفت على السيميائيات لفت انتباهي مكانة النسق داخل البناء المفهومي لهذه النظرية النقدية، والنسق دفعني إلى تأليف كتاب بعنوان :” السيميائيات من الأنساق إلى المعنى” ، وفيه رصدت أهمية هذا الملمح النقدي وأخضعته إلى التمحيص، وخلاصة التصور النسقي ومجمل ذلك التصور أوجزه فيما يلي :
إن “العلامة هي السند الذي يمكن من تشكيل النسق، ومنذ العمليات الأولى أي منذ التخمين- الطوبيك – تبدأ السيرورة التأويلية” فلا يمكن البحث عن المعنى خارج العلامات، ولا يمكن أن نفكر دون علامات، فالمعنى موجود في العلامات، والعلامات وحدها هي السبيل إلى إنتاج الدلالات وتداولها.” وهذه العلامات لا يصير لها كيان دال إلا إذا انتظمت في أنساق..فالسيميائيات هي علم الأنساق في الطبيعة والمجتمع…فالنسق هو الإجراء الذي يمنح التأويل وجاهته” ولا شيء يمكن أن يشتغل داخل هذا العالم حرا طليقا يحلق في فضاءات الكون لا تحكمه ضوابط أو حدود ولا يحد من نزواته نسق” ولعل هذا البعد ماجعله مرحلة ضرورية في بلوغ الغاية.”

واعتبارا لهذا الفهم سنقرأ قصيدة الشاعرة وجيهة السطل “جنون السراب”:


سيميائية العنوان:
جنون السراب
الجنون فقد،والسراب فقد،والجمع بين فقدانين تعميق لدلالة الضياع ففقدان العقل جنون وفقدان الأمل سراب وفقدان الحب عذاب..
فالعنوان نسق دلالي محيل على النص، لأن كل جملة مؤهلة لتكون عنوانا…فلا عنوان إلا إذا كان يشير إلى نص إشارة إلزامية وأن يكون ملخصا وموحيا بالدلالة الكبرى للنص.
فما علاقة علامات العنوان بعضها ببعض؟
هذا جنون السراب.
حذف المبتدأ قصد تحقيق بلاغة الإيجاز.

إن العنوان حكم ،وهذا العنوان حكم على الفاعل بالجنون
وعلى الموضوع بالوهم

التشاكل كنسق تواتر دلالات وتردد معنى ونموه واتساع مداه:
أنسا ق دلالية يعززها السياق
نسق الاغتراب:

إقتباس:

أنت جمر اغترابي
برد الثغر يحرق اكتئابي

جمر= يحرق
اكتئابي = اغترابي
فانظر إلى تكرار الدلالة بصيغة أخرى ، وتكرار البنية الصرفية (افتعال ) + ي المتكلم؟
نسق الضياع:
ضياع/عذاب /اضطراب/ اكتئاب/شقي/انسحابي
سراب/يباب/غرقت
كل هذه العلامات تدل على سبق وجود شيء وزواله حقيقة أو اعتقادا.
عذاب = سبق وجود الراحة والتكريم /مجيء العذاب لإزالة الراحة والتكريم وإحلال الألم والإهانة .
اضطراب = سبق وجود الاتزان ،/حلول الخلل والفوضى
وهكذا في الاكتئاب والشقاء واليباب و الغرق.
وقد قلنا زواله اعتقادا:
سراب / يعتقد الناظر أنه ماء / فيضيع هذا الاعتقاد ويزول. عند التحقق منه أنه محض انعكاس ضوئي يوهم بوجود الماء ولهذا

فالشاعرة عبرت عن عطش نفسي مؤكدة هذا العطش بتكرار العبارة (سأبقى صاديا – وأبقى صاديا )
نسق العشق :
عشقتهما =هواك= حبك
اكتئاب = ( وقد شرحته الشاعرة بصورة شعرية)
إقتباس:
غرقت بأدمعي من غير جمع

والغرق في الألم من غير دمع ليس له اسم غير الاكتئاب.
صمتُّ متمتمًا في القلبِ أحكي
سأغتالُ الهوى والقلبَ طعنًا
ويعزز هذا التشاكل ويدعمه أنساق أخرى دلالية تتكرر:

أنساق دلالية تتكرر :
ألثم ثغرك /ببرد ثغر- ويلي من شقي /ويلي من محب
الشقاء =الحب
أبقى صاديا /أبقى صاديا/
وهواك وردي/ وهواك وردي/
فهذا النسق يؤكد الدلالة ويعمقها دلالة العشق والضياع.

الأنساق الدالة والسياق:
يشكل السياق أحد ركائز السيميائيات التداولية والسيميائيات الثقافية:
ويمكن تقريب نسق السياق بإضاءته فنقول :

هو مراعاة العوامل اللغوية التي تحيط بالكلمة وأثر ذلك عليها . وهذا سياق داخلي أما السياق الخارجي: فهو مراعاة العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمقامية التي حضرت وكانت مؤثرة في بناء الدلالة.
فالبيت الأول:

إقتباس:
ضياعٌ في الذهابِ وفي الإيابِ
فماذا بعد حبِّكِ من عذابِ

تفتتح القصيدة بهذه العلامة (ضياع) وتنتهي بعلامة (جواب )
فالوقت ضياع والجهد ضياع والعواطف ضياع ..
الذهاب + الإياب +حبك = ضياع / عذاب
ويتعالق السياق بنسق التباين :
نسق التباين :
وهو نسق الثنائيات الضدية:
وهو يفصح عن الرغبة وما يعترضها ،وقد توفقت الشاعرة في جعله أداة من أدواتها الفنية لتجسيد الصراع والتوتر النفسي :
الذهاب ≠ الإياب
اقتراب ≠ ابتعاد،وأنت بعيدة
اقتراب≠ انسحاب
أسطرك ≠أذبحك
الحلم ≠العذاب
العشية≠ الغداة
فيكون نسق :(الذهاب – الاقتراب – أسطرك- الحلم- العشية )

هو مجموع العلامات الموحية بالرغبة في الاتصال.
لكن لا يتحق ذلك بسبب وجود معارض ،عبرت عنه الشاعرة :

إقتباس:
صمتُّ متمتمًا في القلبِ أحكي

وأنتِ بعيدةٌ ، جمرَ اغترابي

ثم صاغته في بيت آخر:

إقتباس:
سأغتالُ الهوى والقلبَ طعنًا

فما بعدَ ابتعادَكِ من جوابِ

فيكون الانسحاب والعذاب النسق الحكائي:
ليس جديدا قيام الشعر بالحكي فالأصل تصوير الأحداث شعرا وقد عبرت الملاحم الكبرى عن ذلك وروته المسرحيات العظيمة وخلدته في لغة الضاد مقاطع بلغت طولا بليغا في المعلقات وهي من روائع ما استجادته الذائقة العربية وارتضاه الوجدان المشترك.
فالقصيدة أشبه ما تكون بخطاب / رسالة تنعي تجربة عاطفية حادة
وبعد البيت الأول البيت الخلاصة يأتي الحكي، وحيزه من البيت الثاني إلى البيت التاسع:( 2—9)
ومن مكوناته الزمن : الزمن : ويوم – العشية – الغداة
حقا زمن مائع غير محدد لكنه يعلي من التجربة فيجعلها واقعا إنسانيا.
ليست هناك ملامح للمكان ،لأن الأهم لدى الشاعرة هو الحدث:
تأتي الحبيبة حقيقة إلى الحبيب ..و هي لا تدرك ما به.
..وصف معاناته…جعل عيني المحبوبة كشخصية حكائية..وعيناكِ الشهودُ على اضطرابي…ويقع اللثم وما يشبهه…

ويختتم هذا الحكي بتصوير الصراع النفسي ..ما يجعل المتلقي يتساءل :
إن كان الحب قد وصل إلى التقبيل فما هو السبب المخفي الذي أعاق حقيقة نجاح هذا الحب؟
ربما يكون الجواب هو ما ختمت به القصيدة :
فتجربتنا في الحب ضياع لأنك تصرين على البقاء بعيدة :
إقتباس:

سأغتالُ الهوى والقلبَ طعنًا

فما بعدَ ابتعادَكِ من جوابِ

الهوى شيء مجرد أردفته بشيء محسوس بالطعن ،وقد اختارت الشاعرة لفظة مغرقة في دلالة الإفناء ..فالطعن إمعان في القتل …فسيطعن الهوى /الحب /وأداته / القلب.

ختم
هذه القصيدة تناولت موضوعا هوأكثر المواضيع حضورا في المنجز الشعري على امتداد القصيدة العربي ، موضوع جال و صال فيه النوابغ والبلغاء منذ انبثاق الشعر العربي، فعنترة وجميل بثينة وقيس بن ذريح والبهاء زهير وولادة بنت المستكفي وعبد الله بن زريق وإلياس أبو شبكة وصلاح عبد الصبور ومحمد الطوبي والماغوط ونزار قباني وبدر شاكر السياب …واللائحة أطول من النيل …

غير أن الشاعرة لم تكن إضافة كمية ، بل تأكد لنا تميز هذه الصور من التشتت بين الاقدام والاحجام .وهذه الخيبة الممضة المعبر عنها تارة بالجنون وتارة بالسراب .
ما وقر في وجدان وعقل السيميائيات أن القصيدة كتبت وفق دفق عاطفي لكنه محاط بكثير من البناء الفني الواعي ..مما يجعلنا نطمئن إلى القول :أننا ارتوينا حقيقة من أنساقها الجمالية ( التوتر /الحكي / التصوير)وأنها برعمت وأورقت وأزهرت وأثمرت وكانت وارفة الظلال

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: