ضد الموت الشاعر عاطف الجندي
أنا لا أريد الآنَ موتًا تافهًا
عشقًا أموتُ بتيمةِ الشعراءِ
فأنا نبيُّ الشعر عندي دعوةٌ
مازالَ مسكُ عبيرِها بردائي
أنا كبرياءُ قصيدة في بوحها
وجميعُ من قرضَ البيانَ ورائي
فدعي الحياةَ أيا ( كورونا) واخسئي
حتي أسطِّرَ للخلودِ بقائي !
هي فرصةٌ كيما أعاندَ واقعًا
لمناجلِ الحصَّادِ في أشلائي
سأقاومُ التترَ الجديدَ لينتهي
فيروسُ حزنٍ عاثَ كالأعداء
بالطبٍّ بالإيمانِ، بالأملِ الذي
رسمَ القلوبَ بهالةِ الجوزاءِ
مِنْ حقِّ مثليَ أن يعيشَ مُخيًّرا
فالموتُ والميلادُ كالإهداءِ
لم أخترْ الميلادَ أو رسمًا حوى
حظَّ الشقيِّ وشهوةَ الإفضاءِ
والآنَ يأتينا البلاءُ جماعةً
لنساقَ للقصابِ دونَ عَناءِ
ياربُّ دعني فالطريقُ طويلةٌ
والجبرُ فوقَ تحملِ العُقلاءِ
فهبْ الخيارَ لمرةٍ أنجو بها
هي مرةٌ ولنولها إمضائي
وكما أخيَّرُ في ملابس دهشتي
أختارُ قافيةَ الندى.. وفَنائي
سيكونُ صيفَ إجازةٍ في صُبحِهِ
ونَسيمُهُ مَطرٌ على أعضائي
سأقولُ هذا الوقت جدُّ مناسبٍ
للبرقِ يَحملُ للسماءِ شقائي
اليومَ أتممتُ الرسالةَ وانتهى
شدو البلابلِ من زفير حِدائي
شكرًا لأمٍ أوجدتني للدنا
وأبٍ أضاء بنبله أرجائي
ولإخوة كانوا الطريقَ إلى الهدى
ولزوجةٍ قد أتقنتْ إرضائي
ولصبحِ أبناءٍ أعيشُ بسمتهمْ
إن متُّ وزَّعَ نبضُهم أضوائي
ولصحبةِ الشعراءِ أروعِ صحبةٍ
وأحسُّ أن بيانَهم لعزائي
جئتُ الحياةَ بصرخةٍ محبوبةٍ
وأعودُ حُزنا والدموعُ ورائي
القصيدة تجربة شعرية خاصة. عنونها الشاعر ب” ضد الموت “، فهي وليدة ظروف استثنائية، ظروف الوباء التي يعيشها العالم وتعيشها الإنسانية ، وتعتبر تجربة وجودية إنسانية نُظمت في أحرج الظروف . وهي للشاعر المصري المبدع عاطف الجندي، يضمنها إحساسه و موقفه من الموت كإنسان معبرا عن صراع الإنسانية مع الوباء- كورونا 19- “والموت “.
من البديهي أنه لا يمكن أن نستشف تصور الشاعر” للموت ” من قصيدة واحدة ، تصورا كليا لأن الشعر مسار تجربة هي نتاج ثبات وحركة في ظل الظروف التي أنتجته ، وكل تصور لفلسفة الموت عند شاعر معين يحتاج دراسة لواقع الشاعر، والواقع الممكن في ظل الوعي السائد على مستوى الإبداع . و رغم ذلك تبدو قصيدة ” ضد الموت ” نصا معبرا عن وعي الشاعر عاطف الجندي، فهو وعي مرتبط بالظرفية الحالية التي أنتجته، وذلك على مستوى الحدث المثير ، ومستقل عنها في نفس الوقت، لأنه عبر عن عالم الشاعر الممكن بأدوات إبداعية أفصحت عن أفكاره في الحياة والموت ، ونسجت العالم الإبداعي في القصيدة شكلا ومضمونا .
يعبر الشاعر عن إرادته في مجابهة الموت الرخيص ” التافه ” كما سماه …ولكنه يعشق موتا آخر من نوع آخر ” بتيمة الشعراء ” ، كما عشقه الشعراء إحالة إلى فلسفة الموت وعشقها عند شعراء كبار في تاريخ التجربة الشعرية الإنسانية العالمية . ويربط الشاعر حياته بالشعر و بمسؤوليته، فهو “نبي ” ملقاة على عاتقه مسؤولية الدعوة إلى الإنسانية والسلام والعدل وكل ما هو جميل في عالم الشعر، والتجربة الشعرية ومدى تعبيرها عن القيم الإنسانية هي التي تخلد ذكر الشاعر.هكذا يعلن الشاعر في الاستهلال، المطلع وحسن التخلص، أن الحياة المعشوقة هي حياة الشعر وقرضه، وهي حياة الخلود، التي تنفي الموت الرمزي و النسيان، والفناء المعبر عنها بالحياة المأمولة في : ” حتى أسطر للخلود بقائي”، حيث يتوحد هنا وجود الشاعر والشعر، والحياة الحقيقية و الشريفة هي كونه شاعرا يحيي بالشعر ويخلد به.
وفي إبان مأساة الوباء التي يعيشها العالم، يبقى إدراك الشاعر إدراكا مبنيا على رؤية شمولية، تتعدى إدراك الإنسان العادي، فقد فرق عز الدين إسماعيل بين الاثنين بقوله : “فرق كبير أن تعيش المأساة وأن تدركها ، وهو نفس الفرق بين أن تكون حزينا، وأن تدرك معنى حزنك ، فبين الرؤية الغائمة، والإدراك الناصع يتراوح الوجود بين ظاهر ماثل للعيان ومدرك كلي “1. وأما شاعرنا عاطف الجندي فقد تأتت له الحالتين معا ، عاش الحزن مع الإنسانية من جراء الجائحة التي ألمت بها، وأدركه في إبداعه ، يقول : “دعي الحياة أيا كرونا وأخسئي ” داعيا عليها ، ويزيد” هي فرصة كيما أعاند واقعا ” كأني بالشاعر هنا يحسب دقائق الحياة فهي عمر قصير، فرصة ، وزمن هارب بالنسبة لما هوملقى على عاتقه من مسؤولية، وهي مقاومة الموت الرمزي والموت الحقيقي، ” فيروس كرونا – التتر “. بالأمل في الحياة ، والتشبت بها ، وبالإيمان بالله وقدره ، وبالعلم، لأن الله خص الإنسان به من دون سائر المخلوقات ، وهذه نبرة تفاؤلية من جهة، ومن جهة أخرى معتدلة تماما هادئة، مؤمنة بأن الحياة والموت بيد الله، يقول :
يا رب دعني فالطريق طويلة
والجبر فوق تحمل العقلاء
فهبْ الخيارَ لمرةٍ أنجو بها
هي مرةٌ ولنولها إمضائي
يلتمس من الله ويطلب أن يخيره في الموت وأن يمد العمر “مرة ” إشارة إلى هول الوباء وما خلفه في العالم من فجيعة ، و الحياة عند الشاعرمقترنة بالشعر وبالموت . ويظل الشعر وحده ينبوع الغبطة أي النور الذي يبعث على الحياة، و يستطيع الشاعر من خلاله أن يصرخ في وجه كل أشكال التهميش المؤدية إلى الفناء والموت “التافه ” في مقابل الخلود الشعري وعظمة الشعراء ونبل رسالتهم ، كما يصبو شاعرنا أن يكون .
إنها صرخة عاطفية محملة بالدلالات والمعاني، وبالرجاء والتضرع إلى الله انطلاقا من أن الشعر نبوة ومسؤولية تربط الشاعر بواقعه وبمجتمعه وبأسرته الحقيقية والرمزية، فاجتماع الحب والحياة يعطي قيمة للأشياء بما فيها الحياة الاجتماعية التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية. يرجاها الشاعر ويطلبها” يا رب دعني ” ، ” فهب لي الخيار مرة “، من حق مثلي أن يعيش مخيرا” التماس، وحدة إحساس وقدرة فائقة على الانفعال تعطي للإنسان قيمته، ولكل العلاقات المحيطة به للام وللأب وما تحيل عليه الأمومة والأبوة الواقعية والرمزية، يقول :
شكرًا لأمٍ أوجدتني للدنا
وأبٍ أضاء بنبله أرجائي
ويتمم في الأبيات الموالية لإخوة ولزوجة ولأبناء ، ولصحبة الشعراء، كلها تعطي قيمة عالية للعلاقات الإنسانية ، وللقوى الروحية التي تجمع الشاعر بكل ما يحيط به، في وحدة متينة بين الإنسان الشاعر والإنسان الاجتماعي ، هذه الوحدة التي تجعل الشاعر يومن بمسؤوليته في الحياة . وهي مسؤولية اجتماعية ، رمزية إبداعية . تتمثل في رسالة الإنسان على الأرض ورسالة الشاعر، وهي رسالة عظيمة في الحالتين معا . أساسها القيم النبيلة والسلوك القويم المنبثق من تحمل الإنسان والشاعر لها . والإيمان القوي بها. يقول:
سأقول هذا الوقت جد مناسب
للبرق يحمل للسماء شقائي
اليوم أتممت الرسالة وانتهى
شدو البلابل من زفير حدائي
وهكذا يظل للشعر موضوعه الخاص، والذي يفرض له وجوده الخاص، و هو جماع شبكة من العلاقات البالغة التعقيد بين الذاتي و الموضوعي في الإنسان. كما يقول عز الدين إسماعيل : “هو الإنسان الاجتماعي بكل ما يتجمع لديه من ثروة في العلاقات والعواطف داخل الوحدة التي تجمع بين الاجتماعي والشخصي .”.2
مسحة دينية متزنة تهيمن على القصيدة من معجمها إلى عمق معانيها مستشفة من الإيمان بالقدر، والإيمان بالعلم ومن العلاقات بين الأهل والأصحاب و الرجاء في مد العمر من أجل صلة الرحم كما أمرت بها الشريعة الدينية السمحة، ولا غرابة في ذلك فالشاعر المعاصر نموذج للإنسان المثقف. والقصيدة في توافقها وانسجامها بين الصور النفسية و الإيقاعية ، تمتح خارجيا من البحر الكامل، فهي قصيدة عمودية ، أما في إيقاعها الداخلي فيلجأ الشاعر إلى تكرار عناصر صوتية إيقاعية معينة تصبح معادلا شكليا للمعنى المقصود، و دليلا على التناظر الإيقاعي والمعنوي، منها :
تكرار الضمير في (أنا لا أريد ، أنا نبي الشعر ، أنا كبرياء قصيدة) حيث يؤدي إلى تأكيد المعنى الذي يقصد إليه الشاعر، وهو أهمية الشعر في حياته ، وكذلك في قوله (هي فرصة ، هي مرة ) دلالة على ضيق الفرصة وقصر الحياة . ويدل التناظر بين الألفاظ ( الموت / الميلاد، جئت / أعود) على الربط بين معناه ومعنى القصيدة ، كما استعمل الشاعر أساليب إنشائية خرجت عن مقتضى حالها مثل (يا رب ) نداء يخرج للطلب ( دعني ..فهب ) أمر دال على الالتماس. كما عبر بالكناية عن الإلهام في الشعر والقصيد في (نبي الشعر، مسك عبيرها، من قرض البيان، قافية الندى) للدلالة عن وظيفة الشعر وغاياته السامية ، وكنى ب(التتر الجدد، مناجل الحصاد) عمن تسبب في الوباء وعن فعله في الإنسان ومعاناته منه . ودل بالمجاز في (أسطر الخلود، رسم القلوب بهالة الجوزاء ، للبريق يحمل للسماء ) عن توسيع المعنى وتحقيق الانزياح والإيحاء الذي يكثف ويحمّل الصورة أكثر من معنى ويجملها.
فنص “ضد الموت “وحدة كبرى متناسقة الأجزاء ، منسجمة الأدوات والعناصر، مبنية بناء منطقيا ابتداء من العنوان الذي يتضمن معنى ضده ، إذ “ضد الموت” هي “الحياة”، إلى تشكله المعنوي والإيقاعي في انسجام تام بين أجزاء النص وعلاقاتها ، و ذلك بلغة مشحونة بعاطفة قوية زاوج فيها شاعرنا بين الذاتي والموضوعي في التعبير عن الموت والحياة بلغة شعرية متميزة، إذ اللغة الشعرية، كما يقول أدونيس” أكثر من وسيلة للنقل أو التفاهم . إنها وسيلة استبطان واكتشاف، ومن غاياتها الأولى أن تثير وتحرك وتهز الأعماق، وتفتح أبواب الاستباق، إنها تهامسنا لكي نصير، أكثر مما تهامسنا لكي نتلقن،إنها تيار تحولات يغمرنا بإيحائه وإيقاعه ، هذه اللغة فعل ، نواة حركة، خزان طاقات . والكلمة فيها أكثر من حروفها وموسيقاها .(..). فهي كيان يكمن جوهره في دمه لا في جلده. وطبيعي أن تكون اللغة هنا إيحاء لا إيضاحا.3.
الهوامش :
1-عز الدين إسماعيل ، الأدب المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ، دار الفكر العربي، ص350.
2- عز الدين إسماعيل، مناهج النقد الأدبي بين المعيارية والوصفية، فصول الهيئة العامة المصرية للكتاب، يناير، 1981.ص19.
3- أدونيس ، مقدمة الشعر العربي ، دار العودة ، لبنان ،1988، ص79.
د. فطنة بن ضالي
Read more