المدينة الفاضلة بأسوارها وأبوابها وشبابيكها الحالمة

بقلم الأستاذة أسمى وزوز 

منذ زمنٍ وأنا أرسم ملامح تلك المدينة الفاضلة بأسوارها وأبوابها وشبابيكها الحالمة بوقوف الطّيور عليها وهي تنسج من الفجر أغنية الحياة.
وبيوتها الهادئة وأزقّتها التي تحكي قصص المارين عنها صباح مساء، وأرصفتها التي ينام على كتفها الياسمين.
وسراديبها التي تحكي للمطر حكاية العابرين الذين يبوحون بحكايات الشّمس وهي راحلةٌ لعالمها البعيد.
وأخذت أبعد بمنحنيات الطّريق شيئًا فشيئًا؛ لأكتب عن تفاصيل وملامح من سيسكنون هنا، رسمتُ قلوبًا بلون ثلجٍ غنّت له فيروز، ووجوهًا يكتب عنها النّهار قصائد الحبّ، وعيونًا يمتدّ فيها البحر لأبعد حدود.
رسمت تلك الأيادي وهي تغرس الحياة في كلّ مكان ٍ، وتحصد سنابل الحلم هي وبلابل الشّدو.
ولكن يا ترى أتكون مدينةٌ بلا أيادٍ تدوس الزّنابق وتقتلع الزّهر، وتبصق على جنبات الطّرقات، وتطفِئ قناديل اللّيل، وتركل دمى الطّفولة، وتبعثر هدوء الطّرقات في المغيب، حتّى تترك كلّ مكانٍ بلا مرايا، وبلا فجرٍ، وبلا قنديلٍ، وبلا سنابل، وبلا أفقٍ يحلم بالغد!؟
ربما ستكون، لولا هؤلاء الذين يقتلون الحياة، وهم يتدثّرون بثياب المدينة الفاضلة، وبثياب التّقوى؛ ليبدأ دورهم على مسرح الكذب والنّفاق.
فقد نسيتُ رسم هذا المسرح يا سادة، ربما لأنّني لا أتقن فنّ التّمثيل، وربما لأنَني لا أحسنُ ارتداء عباءات الكذب، وربما لأنّني أكتب بحروفٍ من حقيقةِ غائبةٍ عن عيون المارّين، والذين لا يدقّقون في مشاهد الممثّلين المحترفين.
وتبدأ المسرحيّة، ويكثر المصفّقون والمهلّلون والضّاحكون، وتنتهي بالتّعظيم، وتتدفّق كلمات التّبجيل والانحناءات بالظّهور، فقد كان الممثّلون محترفي التّمثيل، وأتقنوا دور النّساك والعابدين وأمّوا بالنّاس خشوعًا؛ ليكتمل مشهد التّمثيل، ويُكتب عن المخرج في كلّ الصّحف أجمل العناوين، وتوزّع الحلوى في المحافل ليأخذ الممثّلون جوائز التّقدير.

والعرض قائمٌ يا سادة في كلّ يومٍ مسرحيّاتٌ جديدةٌ، ولكن ليس داخل المدينة الفاضلة؛ فهي تلفظ التّمثيل وتمقت الممثِّلين المحترفين.
سيكون المسرح مفتوحًا على مدار اليوم واللّيل، لأنّ اللّيل يكون ملهمًا لكتابة المسرحيات التي يُدعى فيها الممثّلون على موائد النّفاق والكذب والغبن؛ ليُؤدّى الدّور على أتمّ وجه.
فالمدن الفاضلة عصيّةٌ على هؤلاء، ولو دخلوها يومًا، سيتمرّد عليهم الضّوء، ويبعثر خطاهم المتأرجحة بسواد قلوبهم التي تخنق نور الحياة، وَسَيُخٍلِعُهم النّهارُ ثوب فضيلتهم المزركّش بخطف الأبصار، وسيعرّيهم شعاع الفجر من ثيابهم التي يُخفون تحتها سواد الأيدي، واسوداد القلوب.
المدن الفاضلة لا تحتمل خطاهم، فهم بها سيؤولون إلى السّراب.
ولكن أتُتْركُ تلك المدن تعارك وحدها؟
وتغلق مسارح التّمثيل وحدها، وتعرّي الممثّلين المقتنصين فرص الموت وحدها؟
أم سيقف ساكنيها الذين رسموا الصّدق والحقيقة والحياة والنّور والشّمس والفضيلة وما مشوا في طريقٍ سواه يحرسون أبوابها؟! ويعيدون مراياها التي كانت قبلَ خربشتها بملامح هؤلاء الذين عبروا فداسوا الزّنبق، وبعثروا أوراق الياسمين، وسوّدوا وجه النّهار.
هذه هي مدينتي الفاضلة التي أرسمها بعالمي البعيد عن هذا العالم المنحدر المخبول.
مدينتي التي يسكن معي فيها كلّ صاحبِ فكرٍ قلبه عامر بالحبّ والحياة والفرح ولا يعرف الخداع ولا يجيد التّمثيل.
فمن منكم سيكون معي يا سادة؛ حتّى نكتب من مداد الحياة قيم الوجود؟

أسمى وزوز
9/ ديسمبر/ 2021

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ثرثرة قلم جائع

ثرثرة قلم جائع – عواطف(عطاف سالم)-

لمعان الشجرة تحت الشمسْ لمعان الذكرى بفعل الأمسْ ... لمعان الكلمات المنسيةْ لمعان الأشواق المخفيةْ ... لمعان النور المتذبذبْ والفرح الغالي المتسرّبْ

%d bloggers like this: