أرشيف حديث القصيد - فطنة

اللذة والدهشة في قصيدة ” الخطيئة التي تصغي إلى أمر الله “للشاعر إسماعيل هموني

     

يعد العنوان عتبة نصية موازية للنص الإبداعي، ويكتسي أهمية كبرى نظرا للعلاقة  الوشيجة التي تصله بالنص، ويعتبره بعض النقاد “علامة جوهرية (…) فهو تارة جزء من النص، أي المتوالية  اللسانية الأولى فيه ، وهو تارة أخرى مكون خارجي، أي العنصر الأكثر خارجية ضمن المصاحبات النصية المؤطرة للعمل.”1، وفي كل الأحوال لا يكتمل النص إلا به. ويحتل العنوان ” الخطيئة التي تصغي إلى نداء الله ” مساحة فضائية مهمة، فهو يتكون  من جملة اسمية و موصولية طويلة مأخوذة من النص، وهي جملة خبرية تطرح سؤال  العلاقة بين طرفيها، و بينها وبين النص؟ إنها تجمع دلاليا بين معنيين متناقضين، ولذلك تعيش مع النص علاقة تكاملية وانسجاما تاما، تستفز ذهن المتلقي، إذ تتضمن معنى مجردا، وتحيل على موضوع النص، كما  توحي للمتلقي  بالمغايرة ، فقد كانت العناوين في القصيدة القديمة غالبا  هي مطالع القصائد.

      يبدأ النص بجملة – سطر شعري – تعد لازمة تتكرر في القصيدة ثلاث مرات وهي “أكتب إليك”، دالة على فعل الكتابة المستمر، كما تكررت في الديوان زهاء تسعين مرة . تماشيا مع بنية النص الفرعي الذي هو” القصيدة ” وبنية النص الكلي  الذي هو ” الديوان “. ويمكن هنا طرح أسئلة التجنيس  إذ تلتقي في النص أنواع أدبية كثيرة على مستوى التسمية ، من حيث الانتماء إلى ديوان بعنوان “رسائل الحب” فإن الكتابة المقصودَ إليها في النص رسالة ، مما يربك الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية ، ولذلك يستمد العنوان الفرعي صفاته من العنوان الكلي . رغم فارق التركيب بينهما. والخطاب في السطر الشعري اللازمة موجه إلى “أنثى” تلك التي تسكن الشاعر هي الأنثى الرمز “القصيد”.

      فإذا كانت تسمية “رسالة”،  كما يذهب إلى ذلك السميائيون ، هو في الحقيقة نص أي شبكة من الرسالات المختلفة التي تعتمد على مستويات متباينة من مستويات الدلالة،2 ، فإنه يمكن اعتبار النص بهذا المعنى رسالة واحدة تتكرر فيها اللازمة ” أكتب إليك “. وفيها يرتل الشاعر العشق المحموم  ويكابد معاناة الإبداع في حالاته النفسية الملتاعة، المتحولة من حالة إلى أخرى، فيعبر عنها مرة  بالعطش، وأخرى  بالإغتراب والمنفى، ثالثة بالسهر والأرق، لتتأزم الحال به إلى حرقة السؤال، سؤال الوجود في اللغة . وأخيرا حالة انفراج وانقشاع الغيوم يتذوق فيها الوجود الحقيقي في قوله: “وأشم رائحة الماء”. إنها حالة  لذة واشتهاء تلك اللذة التي سماها لذة الشوكولا . لكن  المخاطبَة في النص تمارس الغياب تجعل الشاعر يعيش معها علاقة مد وجزر بين الحضور واللاحضور وصفه ب ” الحضور النيء” وفعل العتمات ، وإذ ببارقات الضوء تومض بين الفينة والأخرى، ويسمو الشاعر فيها إلى ” المعنى ” الحر، وإلى توليده و إنجابه ، في انفصاله عن الذات، فيصبح الضوء مصاحبا للصوت الداخلي في ذات الشاعرومنتهيا  بالتشكل . التشكل الذي  يتماهى فيه الشكل بالمعنى أي كما قال ” يتلبس”. ويجعله يطرح السؤال ؟ عن هذا الآتي من الغيب أأثر موروث هوأم جديد مختلف ؟.

ونكون هنا أمام أزمات تشكل النص النفسية على مستوى الولادة وعلى مستوى تطويع اللغة لحاجات التعبير، وهذان يجتمعان في كل عملية إبداعية. يكشف النص عن هذه اللحظات من خلال علاقة الشاعر باللغة والتجربة الوجدانية التي يكتنفها الغموض. ومع ذلك فالشاعر إسماعيل هموني خاض تجربة السفر المضني، وهي الكتابة  والتعبير عنها، فهي سفر في الدلالة وفي اللغة، ولهذا السفرعنده طقوس خاصة، يؤكدها النص بأنها لذة شبيهة بالشوكولا واشتهاء؛ فهي لذة مختلفة، قد تكون مُرة أو حُلوة، أما الشهوة  فهي هنا روحانية، نفسية تنم عن المكابدة والمعاناة من أجل ” المعنى الحر”، لينساب في سلاسة وعذوبة واطمئنان ، فيض بعيد عن القيود.

 تعتمد هذه المعاني في صورها الفنية في النص على تقريب المتباعدين أو المتعارضين في التعبيرعن أحوال الشاعر الإبداعية ، حيث يجمع فيها بين المجرد والملموس، مثل قوله:”حضور نيء..” و”غياب ينز في ذاكرة الحضور كغزال تنبه لشراسة الصياد (القناص  بالأحرى)”. وكذا قوله ” إذا كان أثرا فهو رائحة تضج بها ذاكرتي “، وقوله ” فالرائحة تبقى للعين من رسم تمثال للعشق “. فنتساءل كيف يكون الحضور نيئا ؟، ما الرابط بين الغياب والغزال ؟ وكيف نجد صلة بين الرائحة والعين؟، حيث المألوف إدراك الرائحة بالشم لا بحاسة النظر. تبدو العلاقات والصلات بين الأشياء هنا خفية جدا بعيدة عن التصنيف لا تخضع للمعايير المألوفة، لأن الصورة قائمة على التشبيه، والعلاقة بين المشبه والمشبه به إذا كانت خفية أو بعيدة فإن الصورة الشعرية تصبح باعثة على الدهشة والغرابة، حاثة على طريق اكتشاف ما هو خفي أو بعيد عن المتناول،عكس العلاقة الواضحة بين المشبه والمشبه به التي تكون بمثابة تحصيل حاصل، وتصب فيما هو مشترك ومبتذل، على أن البحث في مناطق الدهشة والغرابة والخفاء لا ينبغي أن يتحول إلى طلاسم، بل من المستحسن أن يظل في إطار إدراك العلاقة بين شيئين أو فكرتين، أو صورتين أو إحساسين ، مهما كان هذا الإدراك عصيا على الأذهان. ودور الشاعر هو أن يضع منارات في سبيل القارئ من أجل الوصول إلى نبع الدهشة والغرابة. فتشبيه المجرد بالحسي أوالعكس يحدث الصدمة والدهشة ، ويفجر ينابيع الشعر. كما هو شأن هذا النص، جمع المتباعدين في صوره، للدلالة على حالة تلتبس فيها اللذة والشهوة بالمكابدة والمعاناة . عبر فيها الشاعرعما يعتريه من إحساسات مختلفة. إنها بلا منازع شطحات روحانية وجدانية في طقوس الإبداع لأن شاعرنا نهل من معين صوفي في أصله وجذوره الأبوية امتدادا إلى الواقع الإبداعي وله إشراقات نورانية في أحد دواوينه السابقة بنفس الاسم “إشراقات”.

مازالت قضية كيف يبدع المبدع ؟ من القضايا الشعرية الأكثرغموضا وتعقيدا لأن الإبداع الفني كما يقول الناقد عبد الفتاح عثمان” يرجع إلى ارتباطه بمشكلة السلوك الفردي عند الإنسان، وتوغله في أعماق الشعور واللاشعور، وانبثاقه عن قوى عدة داخل العالم النفسي للمبدع وخارجه؛ وكلها مسائل ذات طبيعة غائمة  لم تتضح فيها الرؤية ، ولم تقل فيها الكلمة الأخيرة بعد.”3.

ورغم أن الموضوع قديم جديد، فإنه سيظل متجددا مشرعا على البحث في كل المجالات، هكذا صور النص غمار التجربة بكل ثقلها، من حرقة السؤال ، إلى الشوق والحنين وصولا إلى المجهول الذي يأتي في كل الأشكال. لقد حرك فينا الشوق إلى المستقبل، مستقبل الكتابة والإبداع، بحديثه عن هذا العالم العصي عن التفسير النهائي، مستحضرا الموروث الثقافي الصوفي من خلال التعبير عن المجاهدة والفيض خالقا عالما روحانيا مغايرا في صور تبعث على الدهشة، وعلى الاستكشاف والتأويل . وذلك لأن الشعر الحداثي شعر مختلف يفترض قارئا منسجما واختلافه، حيث تصبح القصيدة ، كما قال إدوار الخراط في تقديم له لمجلة الكرمل،:”مغامرة ومساءلة و مصادمة، في بنية معقدة، ليست مغلقة بل مفتوحة للاحتمالات، لا تنصاع للمفهومات الجاهزة، ولا تصوغ الجاهز المكرس،ولا تعيد تعميل المقبول، بل تجرح، وتهجم، وتخترق؛ فهي قصيدة الإشكالية،(..)، ومن تم فإن الغموض الذي اتهمت به هذه القصيدة، هو الغموض الخلاق، الحافز، الذي يريد من المتلقي أن يكون- هو، أيضا- مبدعا خلاقا، وموضوعا في قلب الإشكالية.4.

الهوامش .

1- الخطاب الموازي للقصيدة  العربية المعاصرة ، نبيل منصر، دار توبقال للنشر،ط1، 2007،  ص40.

2-  نظرية النقد الأدبي الحديث، يوسف نورعوض، دار الأمين للنشروالتوزيع، 1994، ص52. سنة .

3- إشكالية الإبداع الشعري ،عبد الفتاح عثمان، فصول ،م 10،ج1،يوليوز1991،ص82.

4- إدوار الخراط، على سبيل التقديم، مجلة الكرمل ، ع14،1974،ص13.              

فطنة بن ضالي / المغرب

Read more

 

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: