العاشق المتخفي في جلباب السرد كي لا ينكشف(قراءة في قصيدة”وهم الوفاء”)للشاعر العربي السيد عمران بقلم: الناقدة مالكة عسال

حين تصلك أشعار تضرب القلب وتهُز النفس، لنْ تتخلى عن قراءتها، والاستمتاع بلذة معانيها، بل التغني أحيانا ببعض أبياتها، ومهما يرتهن بعضُ النقاد بجمالية الشعر الحداثي، وقوة دلالاته؛ فمازال للشعر العمودي نصيب من العشق والجمال، يُشبع نهَمَ عشاقه، والراكضين خلفَه؛ والقصيدة (وهم الوفاء ) التي بين أيدينا، للشاعر العربي السيد عمران، لاشك أنها تستميل القارئ، ليلتهم من صحْن متعتها الفنية والجماليةَ اللغوية ..
(وهم الوفاء) هو العنوان الذي اختاره شاعرُنا السيد العربي لقصيدته، ويقصد به التصور أو التخيل، أو الظن أو الاعتقاد، تخيل أشياء صحيحة ولكنها خاطئة/ واهية.. والوفاء يعني الإخلاص في العمل أو الحب، أو الاحترام أي التفاني حتى آخر المطاف؛ فالقصيدة تشخص حالةَ المحب العاشق الولهان، الذي يركض متلهفا خلف محبوبته، بنيّة صافية، وروح طيبة، وقلب سخي، يتغنى بخصالها، ويتخيّل أطيافها:

إقتباس:
فبسطتَ كفَكَ نحوها متلهفا

وأخذت ترفع في المغاني شأوَها

وتركت حرفك في هواها عاكفا

فملأت بالشعر المغرِّد جوّها

بينما هي في برجها العاجي، لا تبالي بلوعة عشقه، جامدةَ المشاعر، مفرَغةَ القلب من كل إنسانية أو رحمة، تكبّرا منها وجفاء، لا تحس بما يقاسيه؛ حيث كلما زادت تجبرا وعنادا، زاد العاشق لوعة واحتراقا…

إقتباس:
ملكَتْ فؤادك ثم ولتْ وارتدت

ثوب الجمود مع الجحود مُمَوِّها

وتُذكرّنا القصيدة بقصة روميو وجولييت، حيث روميو تجرّع السم ليُوارَى قرب جثة جولييت، ولما استفاقت جولييت، ورأت روميو ميتا، قتلت نفسها بخنجر روميو؛ أو قصة ابن زيدون، صاحب المشاعر المرهَفة، الذي سقط في حب أعمى لولادة، الشاعرةِ المتميزة ابنةِ الخليفةِ المستكفي، وغيرها من قِصص الحب، كقيس وليلى وما جاور ذلك..
غير أن ركْض عاشقِنا يَبيء بالفشل، لأنه يجري خلفَ سراب، يَفني عمْرَه، في العبث /في الجدوى، فيتلمظ باللوعة بشكل أكبر، حين يصيرُ الممنوع مرغوباً فيه، الشيء الذي يُحيّر العقل، ويؤزم النفس، ويقلق الخاطر، ومع ذلك يتلمس لمحبوبته الأعذار، يُمنّي نفسَه بوصال تحت لواء الأمل، الذي يتوارى في سديم البُعد والجفاء …

إقتباس:
ووجدتَ هَمّا بعد هَمّ فرحها

ورأيت غيما بعد غيم صحوها

القصيدة، صيغت على شكل نص سردي، تحمل في طيّها جُمَلاً من عناصر القصة: الشخوص مثل العاشق، والمعشوقة والسارد أو الراوي، الذي هو نفسه العاشق، يحكي سيرته متخفيا في جلباب السرد، موجها النصح بكاف المخاطَب، ليُموّه القارئ حتى لا يُفصحَ عن نفسه وينكشف..

إقتباس:
أنت الكريمُ ، فكيفَ تقبلُ سطوَها؟

قد شاغلتك وجمّلتْ لك نفسَها

والأحداث التي تتعاقب في قوالبِ أزمنتها وأمكنتها، حيث طولَ العمر سيظل عاشقُنا يركض وراء وهْم الوفاء،
يقتفي أثرَ صوتها في الفيافي ..
تلبست القصيدة لبوسا حداثيا من حيث وحدة الموضوع، فهي اكتفت بتشخيص حالة عشق لا هبة، ولم تتطرق إلى عدة أغراض، كما سار عليه فحول شعرائنا العرب؛ وصيغت بتسلسل، لا يمكن قطعُ خيطه من بداية القصيدة إلى نهايتها، ترفل لغتُها في المباشرة، التي كانت السندَ الأساسيَّ لها لتكون جميلة؛ يُخضِعُ شاعرُنا الداخل للخارج، وفق ما يحس به، مع الاقتصار على الجزئيات والتفاصيل لحالة العشق الصارمة، موظفا لغة جاهزة متداوَلة بعلاقة منطقية عقلية، تُعبِّر عن حقيقة واقعية بمقتضى قانون عاد عام.. ولنلاحظ هذا البيت:

إقتباس:
خداعةٌ … فعلامَ تسعى نحوَها؟

وإلامَ ترعى من بعيدٍ خطوَها؟

أي ماكرة مُضلِّلة، متملِّقة غشَّاشة، ولِمَ أنت تركض خلفها وإلى متى ستظل تقتفي أثرها؟؟ إذا البيت واضح يمكن اقتناصُ معناه بسهولة تامة، دون أي مجهود يذْكر.. لكن شاعرَنا العربي السيد عمران، وإن اعتمد السهولة والبساطة في القصيدة ربما لطبيعة موضوعها؛ فهو لم يبخلْ عنْ قرائه بتطعيم خفيف بما هو رمزي أحيانا، كما في البيت التالي..

إقتباس:
ذوّبت عمرك في إناء ضلالة

فبدوتَ من بعد الجمال مشوّها

نلاحظ هذا البيت الشيق، كيف حلّق بنا الشاعر في حلة من الجمال اللغوي، حين أنطق اللغة بمعانقة الألفاظ بما هو غيرُ منطقي؛ فالعمر ليس قطعةَ سكر أو ثلج حتى يذوبَ، لكنّ مراوغةَ الشاعر للغة، خلقتْ منها جانبا فنيا مدهشا ممتعا ..وحتى أختِم فالشعر طقوس وأذواق، ولقرائه أيضا طقوس وأذواق، وما يضرب بنبضه القلبَ دون استئذان، هو الذي له السطوُ على المشاعر … 

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

قراءة لقصيدة الحج لغزة للشاعر ماجد النصيرات – زكية خيرهم

لحج لغزة هذا العام يكفيكَ نصراً إذْ وقفتَ شُجاعا و ركبتَ موتاً للحياةِ شِراعا يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً و بكَ الرجالُ سيقتدونَ تباعا

%d bloggers like this: