إبليسة 10 – د. أحمد عرفات الضاوي

إبليسة 10

أبليسة 10

د. أحمد عرفات الضاوي 

لم يكن الليل يخيفني في وحدتي ، ربما عودتني القرية على حب العتمة وتأمل السماء والنجوم ، ولكن ما يخيفني هو النهار ، أنا هنا مجرد صبي قروي ضئيل ، تفرست في وجوه أقراني في المدرسة لعلي أجد من يشبهني ، كلهم طوال ، ملابسهم جميلة ومكوية ، يصففون شعورهم بطريقة أنيقة ، في الطابور الصباحي كنت أول من يقف على رأس الصف تجنبا للمتاعب ، وكلما جاء طالب دفعني إلى الوراء واستحوذ على مكاني ، ويتكرر ذلك مع كل قادم جديد ، حتى أجد نفسي مختفيا في آخر الطابور ، وفي يوم رآني معلم قصير مثلي ، فشدني من غرتي مثل السخل ، ووضعني على رأس الصف ، أحسست بالمهانة ، سبحان الله هذه الغرة التي تدللها إبليسة وتصلح خصلاتها بحنان بالغ ، تحولت اليوم بيد هذا المعلم إلى غرة تيس .
التيس الطويل الذي كان في المقدمة أصبح خلفي ، وبدأ يتمتم بكلمات استفزازية ، فقد استكثر على قروي مثلي أن يقف أمامه ، ولكني اكتشفت مع الأيام أن طلاب صفي قد تواضعوا على أماكن اصطفافهم في الطابور وعلى أماكن جلوسهم في الصف بطريقة تلائم علاقاتهم وحاراتهم .
وهؤلاء الذين يحرصون على الاصطفاف في مقدمة الطابور ، اختاروا الزوايا والمقاعد الخلفية في الصف .
هنا فقدت الخصوصية والتميز والدعم الذي تحصلت عليه في مدرسة القرية على مدى سنوات ، أنا هنا نكرة وما زال المعلمون ينادوني بالأشارة أو بلون قميص الكاروهات الذي يلازمني معظم الوقت . فقدت الدعم كله وها أنا أخوض حربا لإثبات الذات ، كنت لا افوت فرصة للمشاركة في الأنشطة الصفية والإجابة عن أسئلة المعلمين ، ولكن لا أحد يسألني ، المعلمون متواطئون مع أبناء المدينة ، وينادونهم بأسمائهم ، ويعرفون آباءهم وعائلاتهم ، مما جعل تأكيد الذات مستحيلا . لذلك كان اليوم المدرسي بالنسبة لي كريها وطويلا ، ومع ذلك استمر التزامي ومذاكرتي مكتفيا بتشجيع إبليسة التي تنتظر أخباري ولا أريد أن أخذلها .
عاد نجمي للسطوع بعد أول امتحان في اللغة الإنجليزية ، فتحصلت على علامة كاملة ، وبدأ المعلم يبحث عني ، ولما وجدني صدمته هيئتي وضآلة جسمي ، وقصر قامتي ، فزاد من دعمي إعجابا وشفقة ، وذاع صيتي بين الطلبة ، وسأل عني المعلمون الآخرون . فاستعدت هيبتي الضائعة ، وبدأبعض الزملاء يتكلمون معي في أثناء القسح ويسألون أسئلة فيها فضول ، وعيونهم تشي بانهم غير مصدقين أن صاحب هذه القامة الضئيلة والملابس الباهتة ، الذي لم يسمعوا صوته على مدار شهور ، يصبح فجأة نجم الصف الذي احتلوا زواياه دون أن يردعهم أحد ، وأنحازوا جميعا لزميل ينافسني من أبناء المدينة ، وتحولت المنافسة بيننا إلى ما يشبه المعركة الصامتة .
كنت استعجل الوقت وانتظر فرصة سانحة لأعود إلى القرية واتحدث عن بطولاتي لإبليسة ، وانتظرت حتى نهاية امتحانات الفصل الأول ، حيث كنت أتلهف لعطلة طويلة ، ولكن شوقي إلى إبليسة أفسده الخوف من تحولات في جسدي لم أكن أعرف شيئا عنها ، كان لحافي ضافيا كافيا ، والأن إذا تماديت فإن جزءا منها سيبيت خارج الدفء ، فكانت القرفصة حلا ، تحت أنفي شعيرات بدأت تنبت وتشوه براءتي ، واكتظ عارضي بشعر أسود بدأ يزحف نحو لحيتي . صرت أتفرس وجوه زملائي فلم أجد أحدا مثلي ، لم يعد وقوفي على راس الطابور مبررا ، ولكن لم يعترض أحد على ذلك ، حتى صوتي تغير ، وصرت أسمع له رنة جميلة ، هي إجمل مافي هذه التحولات ، ولكن المأساة أن ملابسي لم تعد ملائمة ، فصرت أحشر نفسي فيها واحتال بالسماح للبنطلون الكاكي بالنزول إلى ما تحت الخصر ، واستر هذا النزول بجعل أطراف القميص تنسدل حرة على جانبي جسدي . وهي حيلة بدأ يتقلص مفعولها يوما بعد يوم .
لم أكن أنظر في المرآة الصغيرة التي دستها لي إبليسة مع آخر مؤونة ، صرت أنظر فيها كل يوم عدة مرات ، أتفقد براءتي التي تتلاشى يوما بعد يوم ، ويحل مكانها سواد تحت الأنف وعلى الخدين ، وكانت صدمتي هائلة عندما رأيت جوزة نافرة في منتصف رقبتي ، اقتحمني حزن وخوف ، فقد تذكرت صالح الجوهرة ، ذلك الرجل المريض الذي لم يمهله المرض طويلا ، فقد كنت أرى في رقبته مثل هذه الجوزة ، ووقر في قلبي أنها سبب موته .
كان أكبر همي : كيف أقابل إبليسة بهذه الهيئة ، وكيف أتدبر ملابس جديدة تلائم هذه التحولات .

About abdulrahman alrimawi_wp

Check Also

الإبداع مرآة النفس د. ميسون حنا

 الإبداع مرآة النفس عندما تعكس ما يمور بعقل المبدع من إرهاصات الواقع، ويتفاعل معها بأحاسيسه، ويثريها بفكره ومعرفته وثقافته، إنها بلسم الروح، ولكن عندما نشاهد على شاشاتنا ما يدور في غز ة العز ة

%d bloggers like this: