مناجاة البحر في قصيدة “قد كان ملكا” للشاعر طارق مرسي / د.فطنة بن ضالي
عبدالرحمن ريماوي 25 أكتوبر، 2020ابحاث ادبيةالتعليقات على مناجاة البحر في قصيدة “قد كان ملكا” للشاعر طارق مرسي / د.فطنة بن ضالي مغلقة2,725 Views
مفتتح
تُداويني بـذاتِ الـداءِ نفـسُ
فتعطيني حنانـاً ثـم تقسـو!
وتُسمعني أنينَ الـروحِ يشكـو
فيسكنُ قلبـيَ المُلتَـاعَ مـسُ
وتودِعُني بدار السُهْـدِ عيّْنـي
وأدمعها على الأوراق همسُ ؟!
فيا نفسي دعْي الأحـلامَ إنّـي
سئمتُ الحُلمَ إن الحُلـمَ يـأسُ
يقيمُ على بقايا الروحِ عُرسـاً
وكيف يطيبُ بالأحزانِ عُرسُ ؟
قد كان مَلكاً
يا أيُّها البحرُ المودِّعُ شمسَه
إني سألتُكَ في المغيبِ وصـــالَهْ
إني سألتُك أن تُجيرَ صبابتي
مِنْ هجرِ مَنْ جعل الغروبَ مآلهْ
قد كان مَلْكاً فوق عرشكَ حينما
قصدَ الضياءَ لكي يزيدَ جلالَهْ
فأنا المتيمُ بالنجـومِ وبالهوى
وأنا المتيمُ إن لمحتُ ظلالَهْ
وأنا الحزينُ إذا الغيومُ تناثرتْ
ملءَ السماءِ لكي تذيعَ زوالَهْ
هو قد تمايلَ مثل شمسكَ وانزوى
بين الغياب ، وقد أناخَ رِحالَهْ
واعتاد نوباتِ البُعادِ كأنَّه
نجمٌ يُخبئُ في البحــــارِ جمالَهْ
يا أيها البحرُ الذي شهدَ العهو
د َجميعَها : هلْ قد رضيتَ فِعالهْ ؟
هلاّ رضيتَ من الضياءِ وعودَه
؟! هيا أجبني أم عشقتَ مِطالَهْ
حمَّلْتني صخرَ السهادِ ومرَّه
و تركتَ لي بين الصخورِ خيالَهْ
لهفي عليه يبيتُ دوماً عاكفا
يدعو الإلهَ لكي يُزيل َهزالَهْ
يرتادُ بحراً كم تلاطمَ موجُه
بالنفس يدنو كي يقول مقالَهْ
أودى الغرامُ بذي البراعةِ والنهى
إذ ما تمنَّى بالخيالِ وِصـالَهْ
1- المفتتح
يظل المفتتح عتبة نصية مهمة لها كيانها ، ولها علاقاتها التفاعلية مع النص الموضوع، وهو هنا خمسة أبيات، تتضمن شكوى الشاعر من قساوة الحياة وفجيعته ، ويأسه ، وفيها يتطابق البيت الأخير مع البيت الأول إذ الأخير تفسير للأول ، حيث يتعلل الشاعر بعلته ، فهو كما يقول 🙁 يقيم على بقايا الروح عرسا) ، تعبيرا عن اليأس من الحياة ومن قسوتها، بعد أن أذاقته اللوعة والسهد ومحاولته السلوان بالكتابة المعبر عنها بقوله: (أدمعها – العين – على الأوراق همس )، وبدا له أن كل هذه الأحلام لا تجدي . ويحيل البيت الأول إلى قول أبي نواس ” وداوني بالتي كانت هي الداء ” مع فارق السياق طبعا ، على اعتبار أن الشاعر لا يبدع من فراغ بل من تراكم معرفي ومن تراكم تجارب سابقة، بما فيها الثقافي والاجتماعي إذ يمتح الشاعر طارق مرسي هنا من تراكماته وثقافته المتعددة المشارب . وهكذا، يثير انتباه المتلقي طغيان أفعال المضارعة على الأبيات من بدايتها حتى نهايتها؛ مما يدل على أن حال الشاعر مسترسلةٌ ومستمرةٌ نحو المستقبل، وقد نوع في ربط الأحداث بحرفي العطف؛ الواو والفاء، الفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب مما يفسر أن كل حدث قريب من الآخر. كما عبر عن حاله هذه بمناداة النفس (فيا نفسي )، وكأنه جردها منه، أو نزلها منزلة البعيد فنداها بأداة تصلح للقريب وللبعيد. ولغة الأبيات سهلة عذبة، عاطفتها جياشة دالة على عمق الحزن واليأس، يظهر ذلك من معجمها الذي اختاره الشاعر (بذات الداء، أنين الروح، قلبي الملتاع ، دار السهد، الحلم يأس، بقايا الروح )، مشيرا إلى تناقض الحياة موظفا الطباق في قوله: (حنانا/تقسو)، والتكرار المعنوي الذي يفيد تأكيد المعنى (سئمت الحلم / إن الحلم يأس)، كما تستند الأبيات في إيقاعها الداخلي إلى تكرار بعض الكلمات (عرسا ، عرس)، (الأحلام ، حلم ، إن الحلم) ، أما إيقاعها الخارجي فتستمده الأبيات من البحر الوافر والتصريع وخصوصية رنة روي السين، ويزيدها رونقا وجمالا تكرار حرف السين في كلماتها ؛ فلم يخل بيت من كلمتين أو أكثر بهما حرفي السين؛ مما يجعل المخارج الصوتية للكلمات قريبة من بعضها وتحدث إيقاعا موسيقيا قويا.
2- قد كان ملكا
زفرة حرى وأنين وتفجع وشكوى إلى البحر من فقد حبيب عانى من المرض قال الشاعر : (لهفي عليه ….يدعو الإله كي يزيل هزاله )، رثاء وحزن مرير، يسأل الشاعر فيه البحر عن وصال من غاب وغرب ، ويبثه هواه وغرامه ، حيث يظل البحر مستودعَ أسرار الشعراء والحزانى ، وهو هنا حافل بالذكريات وشاهد على العهود التي كانت بينهما، وتدل هذه المعاني على الأسى والحزن على فراق الأحبة ، فقد هجره حبه كما تهجر الشمس البحر وتغيب ،(هو قد تمايل مثل شمسك وانزوى)، وهي صورة تشبيهية جميلة أكدها الشاعر بقوله: ( فأنا المتيم بالنجوم والهوى) تشبيها للحبيب بالنجم والشمس في الجمال والرفعة . وللبحر في القصيدة أكثر من دلالة، فضلا عن كونه موطنَ الأسرار، فهو كذلك رحب شاسع يوحي بالحرية والانطلاق وحب الحياة ، له عرش، يقول الشاعر: (قد كان ملكا فوق عرشك ) ، كما أنه عنوان و موطن الجمال ، في الإشراق والغروب ، في زرقة المياه وصفاء الأفق، زيادة عما في أعماقه من در ومحار حتى إن الحبيب يخبئ فيه جماله ، يقول 🙁 يخبئ في البحار جماله ) وهو كذلك مكان الدفء والمحبة واتقاد العواطف ، مكان الوصال واللقاء ، وتقاسم الأسرار، ( يرتاد بحرا كم تلاطم موجه …كي يقول مقاله )، ولذلك يسأله الشاعر (هل رضيت فعاله ؟)، واليوم أضحى البحر مكانَ لقاء خياله وذكرياته يقول : (وتركت لي بين الصخور خياله )، لقد أضفى الشاعر على البحر صفة الإنسان ولذلك يحاوره ويسأله، ويبثه لواعج نفسه، وشكواه. لأنه مسرحُ أحداث انتهت عبر عنها الشاعر بأفعال ماضية تهيمن على القصيدة مثل ( سألت ، قصد ، تأثر ، تمايل ،انزوى ، أناخ، اعتاد، حملت، تركت ).وظفها الشاعر للتعبير عن حاله المتحسرة عن فقد حبيبه . ويتقاسم القصيدة معجمان أساسيان: معجم دال على الطبيعية (البحر، الشمس، الضياء، النجوم، الغيوم..)، ومعجم دال على الحب والعشق (وصاله، المتيم، الهوى،عشقت، لهفي، الغرام) وبينهما علاقة اتصال تام لأن الشاعر يتوسل بالطبيعة وعناصرها في التعبير عن حزنه ، فهو متيم حزين يقول : ( وأنا المتيم ، وأنا الحزين ) فالبحر و الطبيعة هي العالم المثالي الذي يتماهى معه الشاعر في التعبير عن ذاته وإحساساته .
تستقي القصيدة جماليتها من سهولة لغتها وعذوبة ألفاظها و كادت أن تخلو من المحسنات البديعية والصور المجازية إلا ما جاء عفوا مثل التشبيه في (تمايل مثل شمسك ) و(نجم يخبىء في البحار جماله ). وإن ابتدئت القصيدة بجملة إنشائية ندائية مجازية تم فيها مناداة البحر، إلا أن الجمل الخبرية هي المهيمنة عليها، والقصيدة صادقة العاطفة .
يَنبني الإيقاع الخارجي فيها على بحر الكامل . أما الإيقاع الداخلي فينتج عن ظاهرة التكرار الكثيرة فيها مثل (إني سألتك ، إني سألتك) و (أنا المتيم ، أنا المتيم ) وهكذا يتحقق لها إيقاع داخلي قوي جدا .
بين المفتتح والقصيدة تطابق تام في : وحدة الموضوع ، ووحدة الذات المتألمة الحزينة ، ووحدة ” أنا ” ضمير المتكلم فيهما معا . كما في استعمال النداء ، مناداة النفس ، ومناداة البحر، فيهما معا عاطفة قوية جياشة صادقة .
ويبدو أن استعمال الأفعال الدالة على الحال في المفتتح هي نتيجة لتذكر الشاعر الأحداث التي عبر عنها بالماضي في القصيدة ، وهي أحداث منتهية ، لكنها مستمرة حاضرة على مستوى الاسترجاع .
وهكذا، أدخلنا الشاعر جو القصيدة ، جعلنا نحس ونلمس حزنه ويأسه ، باختياره للغته الجميلة المعبرة عن الغرض بكل وضوح وسهولة . والتعبير عن مرارة الفراق والحب عاطفة إنسانية نبيلة سامية بالوفاء. فالقصيدة ذاتية موظفة الطبيعةَ ومكوناتها أحسن توظيف قصد التعبير عن الأحاسيس والحزن .
خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة
سقيفة المواسم الألكترونية
جاءت قصص صفاء فارس الطحاينة وهي فنانة تشكيلية وصاحبة ذائقة فنيّة رفيعة تجمع بين تموجات وظلال الخطوط وإيقاع الحرف الشفاف،