الوطن الرمز في قصيدة “حينما يصير الوطن منفى “للشاعر القس جوزيف إليا /د. فطنة بن ضالي
عبدالرحمن ريماوي 14 فبراير، 2021بحثالتعليقات على الوطن الرمز في قصيدة “حينما يصير الوطن منفى “للشاعر القس جوزيف إليا /د. فطنة بن ضالي مغلقة1,415 Views
حينما يصبح الوطن منفى
ما عادَ نهاري لي أَدفا وهْو بحضنِ جليدٍ أغفى
ونسورُ همومي تَلحقُ بي تنتِفُ ريشَ هنائي نَتْفا
جيشُ الإحباطِ يقاتلُني يضرِبُ عزميَ صفًّا صفّا
وشِباكي لا تَمسِكُ صيدًا أيوفَّقُ مَنْ فقَدَ الكفّا ؟
هذي بئري لا ماءَ بها إذْ نبعُ مياهي قد جفّا
قمحي تُفسِدُهُ جرذانٌ وعنِ الإنشادِ فمي كفّا
في سَيري كُسِرتْ أقدامي وحديدٌ في عُنُقي لُفَّا
ما أتعسَني في أعراسي لا تصحَبُ أعوادٌ دُفّا
لا غيمٌ يرفعُني أعلى لا عصفورٌ فوقي رَفّا
يهدِمُ أعدائي أسواري وبساتيني تُقصَفُ قَصْفا
يمضي واحدُهم يتهاوى ثمَّ أرى في ساحي أَلْفا
وملائكتي رحلتْ عنّي ما عدتُ أرى منها لُطْفا
تحتي جمرٌ فوقي حجَرٌ وسهامي لا تطرُدُ حَتْفا
لا تعجَبْ هذي أحوالي
مذ أصبحَ ليْ وطني منفى
القس جوزيف إيليا ١٧ – ٤ – ٢٠٢٠
ينبض النص برسالة النبل والوفاء وحب الوطن ، وهو سفر في جرح الوطن العميق ، يؤطره العنوان الذي يمثل نواة النص وهو مكون من “حينما” اسم شرط مبني غير جازم مركب من حين ، وما ، والحين : مطلق الزمن ، قصيرا كان أو طويلا، وإذا اتصلت به “ما” فإنه يعني “عندما”: ، وجملة “يصبح الوطن منفى” جملة فعلية فعلها مضارع دال على الحركة والتحول ، تحول الوطن إلى منفى ، وتحيلنا الجملة إلى معنيين ؛ الأول أن الشاعر غادر موطنه إلى خارجه أي إلى منفى ، والمنفى كل مكان غير الوطن الذي يدل على الألفة والاستقرار، و الثاني أن الشاعر يعيش منفى معنويا، وهي غربة وجدانية في وطن متغير أصبح غريب الأحوال عن مواطنيه وساكنيه. وفي الاثنين معا، معاناة يصفها الشاعر في هذا النص ، إذ يخبر في مطلع القصيدة بحالته النفسية المزرية والغربة العميقة ، التي عبر عنها بتحول دفء نهاره إلى ( حضن جليد أغفى)، ثم يتمم المعنى بذكر السبب في البيت الأخير بقوله 🙁 مذ أصبح وطني منفى) إشارة إلى ما يعرفه الوطن من معاناة ، وما يقاسيه من محن و ظروف قاسية للعيش من جراء الحروب والتطاحن المستفاد من قوله: (يهدم أعدائي أسواري ) للدلالة على تعاسته تقييد حريته بقوله 🙁 وحديد في عنقي لفا)، والمنفى هنا منفى واقعيا ومنفى رمزيا ، إذ يُضمن الشاعر قصيدته رؤيته الرافضة لواقع الحال والتي يمكنها أن تصدق على كل من يعيش نفس الوضع والحال ويصور معاناته الفردية وتجرع مرارتها بمشاهد وبصور انزياحية استعارية كثفت المعاني مثل قوله :(نسور همومي تلحق بي )(تنتف ريش هنائي)، فقد جعل للهموم نسورا مفترسة تطارده ، وجسد الهناء كما جسد الهموم ، و شبهه بالطير له ريش تنتفه نسور الهموم ويزيد الصورة تأزما أكثر في قوله :(جيش الإحباط يقتلني ) لقد اًسند المتعدد للإحباط وجعله قوة وتعسفا ، ويزيد الحدث تصاعدا ( نبع مياهي جفا ) صور مكثفة تدل دلالة واضحة على معاناة الشاعر النفسية، من تعاسة وإحباط وجفاف مستغلا رمزية الماء للخصب والعطاء وللحياة، وحيث ينعدم الماء فإن الحياة تستحيل بدونه.
هكذا يؤثث الشاعر عالمه الخاص الذي يتلاءم وتجربته ورؤيته الشعرية، مازجا بين الحسي والمعنوي في صوره ، معبرا عن صوره الذهنية المؤثرة، مستعملا أساليب إنشائية ، منها : النفي : (ما عاد نهاري، لا ماء به، لا تمسك صيدا، لا غيم يرفعني) ، وكذلك الاستفهام : (أيوفق من فقد الكفا؟)، ، وذلك لتعميق الصورة القاتمة وتوالي الإحباط ، والإخفاق ، حيث بقي الإنسان بلا حيلة أمام هذا الواقع ، غير أن المهيمن على القصيدة هو الأسلوب الخبري إذا ما قورن بالأساليب الإنشائية فيها ، كما اعتمد الشاعر فيها الأفعال المضارعة الدالة على الحركة والتحول، ورغم أن لغة الشاعر لغة سهلة واضحة فصيحة إلا أنها بعيدة عن لغة التواصل، ألفاظها منتقاة بعناية، بل نُسجت القصيدة على الصور الإستعارية المركبة والجميلة المؤثرة في المتلقي، واعتنى الشاعر بالمعاني والأفكار عناية فائقة حتى تكاد القصيدة تخلو من المحسنات البديعية إلا ما جاء عفوا مثل الطباق في قوله :أحد/ ألفا، تحتي / فوقي ، أما إيقاع القصيدة الداخلي فخافت ، رغم وجود بعض التوكيدات اللفظية مثل (تنتف، نتفا ، وتقصف قصفا) ، ويبقى للإيقاع الخارجي أهميته ودوره وهو هنا بحر الكامل وروي الفاء.
تغشى القصيدة مسحة حزينة متمثلة في توالي الصور المعبرة عن تأزم الوضع وقلة الحيلة ، وتعبير الشاعر عن الوحدة والإخفاق، في قوله 🙁 وعن الإنشاد فمي كفا)،وكذا في قوله :(ما أتعسني في أعراسي) ، رغم النفس الديني في قوله : (وملائكتي رحلت عني ) حيث الإيمان بأن الملائكة مخلوقات نورانية ملازمة للإنسان وهي ترمز إلى حال الصفاء والسمو الروحي، وقد تكون هنا كناية عن الأصحاب والأحباب ، ورحيلهم المؤدي إلى وحدة الشاعر ووحشته. أما قوله 🙁 يضرب عزمي صفا صفا ) فإنه يحيل إلى الآية القرآنية الكريمة. ( إذا دكت الأرض دكا دكا ، وجاء ربك والملك صفا صفا ) ( سورة الفجر الآية 22-23)، وإلى ما يتبعها من عذاب جهنم في قوله : (تحتي جمر وفوقي حجر) تهويلا للموقف ، وهو تحول الوطن من السلام و الاستقرار إلى الحرب ومخلفاتها من أهوال وهموم، حيث أصبح الوطن مشتعلا والإنسان تكويه نيران الحرب . ويحضر ضمير المتكلم بشكل بارز في القصيدة فهو يشد أوصالها في وحدة نسيج متناغمة الأجزاء و ترابط فني ومعنوي فكري .
وعلى العموم ، وإن اعتمدت القصيدة نظام الشطرين فإنها كذلك اعتمدت وحدة الموضوع ، في صور يتآخي فيها الحسي بالمجرد المعنوي وهي صور جميلة مؤثرة، اعتنى فيها الشاعر بمعجمه اللغوي، الذي عكس معاناته وحزنه، في صبغة ذاتية واضحة، قوية التأثير على المتلقي . لقد استعان الشاعر بعنا صر الطبيعة في تصوير المعاناة نذكر منها ( نهاري ، جليد، بئر ، ماء ، قمح ، غيم ، نسور ، عصفور، صيد…) لكن دون أن يتماهى فيها.وهكذا، فما يميز القصيدة هو وحدة الموضوع والفكرة والجو النفسي، والبناء الداخلي الذي يعتمد الصور المعنوية بأسلوب شيق . كما تشي القصيدة بعاطفة صادقة في حب الوطن وفي التعبير عن همومه بهدوء واتزان يتجلى في طريقة الوصف وفي تقنياته، فالشاعر ينبذ الفرقة والشتات وإبادة الإنسان، ويدعو إلى المحبة والسلام والإنسانية ، من أجل الحياة.لا غرو في ذلك ونحن أمام رجل دين، إذ الشعر ثقافة روحية معبرة عن فكر خصب متسامح منفتح على آفاق تُحَمّل النص أبعادا ودلالات تمثل رؤية الشاعر للواقع المعبر عنها جماليا في إيقاعه الخاص بروح الإبداع في تلاؤم وانسجام. كما يقول د. عز الدين إسماعيل في كتابه الشعر العربي المعاصر ظواهره الفنية والمعنوية :”فالشاعر – ككل فنان- يحاول أن يخلق نوعا من التوافق النفسي بينه وبين العالم الخارجي عن طريق ذلك التوقيع الذي يعد أساسا في كل عمل فني “. ص124.
النقد المتطفل والمشهد النقدي في الأردن
إن الراصد للساحة النقدية والإبداعية في الأردن، وبعيدا عن النقد المجامل ، والنقد السلعي، قد تصدمه كثير من معطيات سلبية، راحت تنسل خلسة وبروية، إلى المشهد النقدي السائد، ومن ذلك: