قراءة في السيرة الروائية نشيج الدُّودوك للكاتب الأردني جلال برجس بقلم اسيا الطعامنة
عناصر عدة تكاتفت لتكون لبنات أساسية في السيرة الروائية نشيج الدُّدوك للكاتب الأردني جلال برجس القراءة، المخيلة الخصبة، ضجيجه الجواني، موسيقاه الداخلية، السفر، الصحراء، الحب، ولا ننسى مكانه الأول حيث يصفه الكاتب بأنه يعيش في الذاكرة مهما جادت علينا الحياة بأماكن أخرى، تتلقفها الذاكرة بدهشة، حنينا قريته ومسقط رأسه المكان الذي شهدت رئتيه فيه أول دفقة هواء، يحدثنا عنها الكاتب باسهاب وحميمية عالية، حنينا نسخة 77 النسخة التي احتلت مساحة واسعة من ذاكرته، ووجدانه، بيوت قليلة من الحجر والطين تتناثر كثآليل عن ظاهر يد حنطية اللون، صباحها سماء يتصاعد منها دخان الطوابين كمردة تبحث عن سر في طبقاتها العالية، روائحها اختلاط الندى بالأشياء، القهوة وهي تعد للمواعيد المبكرة، خبز طازج تلقيه إلى صيجان تعتمر رؤوس النار، أياد نساء سمراوات ممشوقات يقرفصن قرب النار كقفلة قصيدة تتبع مدارج اللهفة، أصواتها صياح الديكة وهي تقف بنرجسيتها على الأقنان والسلاسل الحجرية، أجراس الماعز والشياه وهي تيمم شطر المشارق حيث الأخضرار البكر، حبات القهوة المحمصة، باب نهار جديد. القهوة التي يصفها جلال برجس بأنها تصريح مجازي يؤدي إلى الوئام، يصف جلال برجس المكان الأول في حياتنا بأنه بصمة ترافقنا حتى في تنقلنا بين أماكن أخرى لاتخصنا؛ صور تطغى على أمكنة لاحقة تتلقفها الذاكرة بدهشة. إذن المكان الأول هو مخزن الذاكرة ومداد الأفكار والذكريات التي عاشت في ذاكرته، وكان لها تأثير كبير على مايكتب فيما بعد، فمن حكايات جدته التي ترويها بوعي سردي فطري على حد قوله ” ما أن انهت جدتي حكاية (طيور شلوى) حتى دب بنا النعاس وفي مخيلتي تحوم مشاهد وأصوات لرواية ربما تكتب ذات يوم. الكتابة حلم جلال برجس الذي لازمه منذ الصغر حلم من نوع خاص متفرد يصفها بأنها وحش لا تتعب قداماه، تمارين موجعة على التخفي رغم ايماننا بالحرية، صرخة لئلا يقع غيرنا بالهاوية، الوجه الهادىء للحزن، الحب كمرادف لحالة لانفهم عمقها غالبا في مجاورة الشجرة للنهر، العلاقة الصافية مع الله، الوجه الخفي من الموسيقى. فأي نوع من الكتابة حلم به جلال برجس يقول: لا أريد من الكتابة إلا أن أكون كما حلمت قبل أن تلامس رئتي أول دفقة هواء عند لحظة الولادة حلمت بأن يلعب الصقر مع الحمامة وأن ترشد الذئاب أرنبا ظل الطريق. ونحن بدورنا نتساءل متى ولدت الكتابة عند جلال برجس ؟ هل عندما أعطاه عمه عزيز أول كتاب ليقرأه أم عندما رأى والده يقترب من والدته غاضبا فسبغ روحه على الورق أم هي سطوة المخيلة التي دفعت به لاختلاق كذبة على جده بأن عمه عزيز عاد من رومانيا. وبعد أن قطع مشوارا طويلا في هذا المجال يتساءل جلال برجس هل انكبابه على الكتابة هو محض هروب أم بحث عن ذات تمتلك قدرة عالية على مواجهة القبح ومصادقة الجمال؟ فيجيب على لسان ابراهيم في دفاتر الوراق” إني أكتب لأردم هوة تخلقت بي على نحو معتم ” وعلى لسان سراج في سيدات الحواس الخمس ” أعترف أنني اختبأت وراء شخصيات في رواياتي وصرخت بحرية من يدرك أنه لن يُرى” اعتراف جريء يدعونا للتساؤل هل التخفي وراء شخوص الروايات التي نكتبها يزيل عن كاهلنا أحمالا ثقيلة؟ يجيب الكاتب على تساؤلنا بأسئلة من يعلم اجاباتها، ” هل أتت كتابة يومياتي مصادفة أم عادة ولدت أثر احتمال كبير بأن ينفجر واحد مثلي ويتفصد من ذاته جراء عجزه عن الكلام؟ التصاق جلال برجس بدفتر يومياته هو المهرب الآمن بعد انصياعه لرغبة والده وضياع حلمه بدراسة الطب ” كدت أهوي إلى القاع لولا الكتابة” ” الكتابة يد كونية حمتني من السقوط” وللقراءة دور كبير في تخصيب مخيلة أي كاتب ودفعه بأن يصل إلى قمة ابداعه السردي، الهروب هو مادفع جلال برجس إلى القراءة ثم إلى الكتابة يقول: ” هربت من ضجيجي الجواني إلى حكايات جدتي إلى القراءة ثم إلى الكتابة، فالقراءة سعي إلى عوالم جديدة على حد قول الكاتب، علاقة جلال برجس بالكتب علاقة خاصة يتحدث عنها بمخيلة خصبة وكأنهم أشخاص حقيقيين ويشبه تجواله بينها وهي على رفوف المعرض ساهمة بالمارة أمشي بينها كمن يمشي بين قبور بدد شيء خفي فيها احساس الخوف من الموت فأشاعت بدلا منه شعورا دافئا من السكينة، تثير بي رائحة الكتب زوبعة أصوات سوريالية أرى دفاتها تشرع على مصراعيها وتتصاعد منها الكلمات كطيور حبيسة أطلق سراحها . القراءة من وجهة نظر برجس هي لحظة انفصال كلي عما حوله وتماه بما تقدمه لحظتها الآسرة يقول كنت أقرأ هربا وأكتب هربا، هربا من أحلام كنت على يقين ساذج من أنها ستتحقق ومن صحراء رغم اتساعها كانت تخنقني بجدارة. تنقلت بين صفحات الكتاب يدفعني فضولي لأعرف إلى أي مدى يمكن للكاتب أن يكون صادقا حينما يدون سيرته الذاتية، وهل يستطيع أن يتحدث بجسارة عن مناطق معتمة من حياته ويلقي عليها الضوء
بصدق ودون مواربة، فتكشف لي السطور الاحقة إجابة على كل تساؤلاتي في الوقت الذي موسيقاه الداخلية تغمرني بألحانها الحزينة التي تأتيه على حين غرة، يخبرنا جلال برجس أن علاقته بالموسيقى ابتدأت وهو مازال في عوالم الرحم حين استمعت أمه لعازف حزين صعد قمة الجبل وقت الغروب وبقي بآلته يحاول اصطياد عصافير المسرة لكنه هبط خالي الوفاض، فبقيت تلاحقه في حله وترحاله من شارع إلى شارع ومن رصيف إلى رصيف، مابدا لي من حديث جلال عن موسيقاه الداخلية لم تكن مريحة هي من نوع مختلف، على عكس مانعرفه عن الموسقى ففي كل مرة يذكرها يأتي معها بمفردات غير ملائمة لماهيتها وماتتركه من صدى لدى كل من يسمعها، مثل المهاجمة، النهر، الخوف، الحزن والوحشة “تهاجمك موسيقاك أكثر” “لكنك تكابد شعورا غريبا يقض مضجع قلبك الذي تنهره موسيقاك كنحلة تطارد وردة تهتز”. “ودبيب خفيف لموسيقاي الداخلية يسعى إلي ويعدني بمزيد من الوحشة، ” “أخذتني موسيقاي الداخليةإلى ماوراء الأفق أفكر بأولادي بأمي وبمصائر محتملة تهاجمني بغتة ثم تروح بعد أن أنفض رأسي رفضا لها”،ثم يردف قائلا “لكن دفقا موسيقيا ( لشوبان) تهادى من مقهى على مقربة مني ودحر تلك الهجمة إلى الوراء”، “الموسيقى طائر يفر من روح العازف ليأخذنا بعيدا عن المعركة بعيدا عن الأسى بعيدا عن قسوتنا وعن أحلامنا المشروخة”، فهل موسيقى جلال الداخلية مختلفة عن موسيقى شوبان والموسيقى التي نعرفها بحيث احداها تشعرنا بالكآبة والأخرى بالانطلاق والفرح. يقول جلال برجس غالبا ماتأتيه الهجمة على حدة وغالبا ماتتحد الهجمات ضجيجه الجواني مع موسيقاه الداخليةلتجعل منه انسانا يشعر بالكآبة والعزلة والانطواء وراء حاجز الصمت. “هربت من ضجيجي الجواني إلى حكايات جدتي إلى القراءة ثم إلى الكتابة”، هل كان جلال برجس يهرب من ضجيجه الجواني أم يسعى اليه؟ حين يتساءل هل صارت حياتي سلسلة من حلقات الهروب أم أني عبر القراءة والكتابة والسفر أسعى إلى ضجيجي الجواني كمن يهاجم وحشا بقي يخيفه لسنين مطلقا صرخاته وهو على رأس الجبل في الليالي المعتمة، إذن نستطيع أن نقول بأن الكتابة عند جلال برجس مرتبطة ارتباط وثيق بضجيجه الجواني وموسيقاه الداخلية هذا مايؤكده لنا الكاتب بقوله: ماذا لو في هذا الزمن الملتبس لو لم تفتح لي الكتابة أبوابها فأعطتني تصريحا مطلقا بأن أفرغ مافي على الورق، ربما أكون مجنونا أو مجرما أو مطلوبا للعدالة، وعلى الرغم من ذلك فإن جلال برجس عندما يبتعد عن الكتابة لم يختفي ضجيجه الجواني ولم يستطع أن يتجاوز الشعور الجارف بالوحدة والميل إلى العزلة فما يلبث أن يعود للكتابة. يقر برجس بأن ضجيجه الجواني الذي طالما أرقه هو مايدفع به إلى الكتابة إن هذا الأمر يوقعه في حيرة كبيرة تضعه بين خيارين في حال وجد علاج لهذا الضجيج إما أن يخسر الكتابة، أو يعقد تصالحا أبديا معه. تحدث جلال برجس عن الغمامة الرمادية ووصفها بأنها مزاج تجتمع فيه كثير من ذكريات سيئة، تحول بينه وبين رغبتة في الكلام أو القراءة والكتابة لكن هذا الهجوم لايأتي كاملا في السفر. السفر الذي وصفه جلال برجس بأنه خروج على الرتابة وسعي إلى الشمس. شعر جلال برجس في أول مرة يسافر فيها بأن المسافر يحمل معه مااراد من الحقائب لكنه لن يحمل كامل حزنه إن ولع جلال برجس بالسفر جاء مبكرا منذ أن أطلق سراح أول عصفور اصطاده مع أقرانه وبدل أن يعده لحفلة شواء تركه يحلق في الفضاء وظل ينظر اليه وهو يحلم بذلك اليوم الذي يحزم أمتعته ليلقي بروحه إلى ولع الجغرافيا، إن شغف جلال برجس المبكر بالسفر جعله يقصي أي مشاعر للحزن عندما رأى المطار لأول مرة وهو في سن السادسة بصحبة أبيه وأعمامه لوداع عمه عزيز بل أنه اعتبر هذه المشاعر قروية ساذجة، يقول: لم أجد مبررا لما رأيته من حزن في قاعة المغادرين، لم تقنعني مشاعرهم ولم أتعاطف مع اصحابها كنت منفصلا عن أحاسيسهم القروية الساذجة وهي ترى في السفر احتمالات غياب ابدي. في الوقت الذي خيم الحزن على جده وأعمامه في طريق العودة كان هو منشغلا بصورة تلقفتها مخيلته عن بلاد سيغادر اليها عمه عزيز. يصحبنا جلال برجس عبر سيرته إلى دول نتجول معه بشوارعها يعرِّفنا على مناخها وطريقة معمارها وقاطنيها، برفقة ثلاث من الكتب لكبار الكتاب ( الغريب) ل البير كامو حيث يلقي الضوء على نقاط مهمة في الكتاب المكان، والشخصيات والمرأة، جاء المكان الجزائري في كتاب كامو من وجهة نظر جلال برجس ضبابيا وظهرت الشخصيات العربية مبتورة لا ملامح لها ولا أسماء وإن ظهرت فإن كامو يبينها على نحو منفر، أما المرأة فقد وضعها كامو في دائرة معتمة على عكس المرأة الفرنسية التي بقيت في دائرة الضوء يقول : يأتي المكان الجزائري ضبابيا وتظهر الشخصيات العربية مبتورة ، يعلن جلال برجس بجرأة بأن كامو لم يكن مثقفا حرا بالمعنى الذي تزعمه أفكاره، وانتماءاته ونضالاته بل بدا كما لو أنه يتخفى ببراعة حين مارس إقصاء متعمد للجزائري ورسم شخصيته من زاوية الرؤية الاستعمارية من وجهة نظر جلال برجس فإن كامو ربما وقع ضحية رواسبه فانحاز لاشعوريا، أو أنه كان محترفا في التخفي وراء شخصية الأديب المؤمن بالعدالة فناصر الاستعمار الكتاب الثاني موسم الهجرة إلى الشمال يخبرنا جلال برجس عن مصطفى سعيد بطل الرواية وكيف أنه حاول ايقاع النساء الإنجليزيات في شباكه ثأرا لبلده التي بقي من أجلها ينزف ولم يتمكن من نيل لحظة الاندماج الكامل في لندن على الرغم من أنه عاش بها وتكلم لغتها بطلاقة وعزا جلال برجس ذلك إلى لحظة عجز ربما تكون متعلقة بالهوية، الكتاب الأخير لرسول حمزاتوف الذي أحب بلده ورفض أن يختزل ذلك الحب بسطور معدودة فأنتج كتاب داغستان بلدي. الحب في سيرة جلال برجس والذي وصفه بأنه يحتاج شكلا طريفا من العزلة والتأمل والعلو جاء شحيحا اقتصر في صباه على ازماريلدا بطلة أحدب نوتردام وسيدة القرية التي ظلت عالقة في قلبه منذ سن السادسة ومازالت تنط له في أول السطر كلما هم بالكتابة، رسائله المعنونة بأسماء زملائه في المدرسة على الرغم من أنها تحمل مشاعره هو، علاقاته العابرة التي ماتلبث أن تبدأ حتى تنتهي. بالإضافة إلى الأدوات التي يمتلكها جلال برجس والتي صنعت منه كاتبا يشار له بالبنان يتفرد جلال برجس باحساسه المرهف حين يحدثنا عن حنينه لأشياءه الأولى العود الأول الذي كسره والده ورغم أنه استطاع امتلاك أكثر من عود فيما بعد إلا أن حنينه لعوده الأول ظل يلاحقه، بيته الأول ” نحن لايمكن أن نكفر باعشاشنا مهما تفجرت العواصف حولها ليس لأنني شممت فيها أول الروائح بل لأني أفتقد دفئا لا أحس به إلا في بيتنا الأول” ولعه بأول سيدة وهي ماتزال تنط في أول السطر كلما هم بالكتابة، حسه المرهف في أنسنة الرواية والقصيدة بجعل منهما امرأتان لايستطيع المفاضلة بينهما فحين تسرقه احداهما إلى سرير اللغة يتسلل على رؤوس أصابعه خشية أن يخدش مشاعر الأخرى. انحيازه، لجانب الحق يوم انحاز لحميدة زوجة جده أكثر من جدته انحياز من وجهة نظر برجس سيؤدي فيما بعد إلى وعي يعنى بالمهمشين والفقراء ومن تقف الشمس عمودية فوق رؤوسهم وتسرق منهم ظل الحظ. يبهرني جلال برجس عندما يتحدث عن أشياءه الصغيرة بمخيلة خصبة قلم الرصاص وكيف تحوله المبراة إلى مبضع حسن النوايا يزيل من الدروب مايعيق لذتها. وأخيرا وبعد أن وصلت إلى آخر صفحة من الكتاب ألهث وأنا أبحث بين سطوره عن الوحش الذي يهرب منه الكاتب واحترت في أيهما هل هو ضجيجه الجواني، موسيقاه الداخلية الموت الذي غافله وخطف أمه وعمه عزيز واعمامه وسيدة القرية أم خوفه أن يفقد البوصلة فلا يستطيع أن يصل إلى المنطقة الأولى من الكتابة التي ستبقى وطن لن يكتمل رغم البيوت التي بنيناها على أرض الورق