مافتئ المتابع للأمسيات الشّعرية غي ملتقى قناديل الفكر والأدب يرصد تجليات القصيد ولغتها الشّعرية المتفوّقة في قيمتها الجمالية والطّاقة التّعبيرية والقوّة البلاغية بما يستدعي رصد رصين لحركة الشّعر المعاصر من خلال هذه القصائد.
وإن كان لابدّ لناقد من منهج يحتكم إليه ويعتمده ليقطع مع الإنطباعية والأحكام الذّاتية والمعيارية ولكني كمتلقيّة وقارئة ومتابعة لهذه الأمسيات من بدايتها أتيح لنفسي ما أتاحه لي أفق التلقي من تفاعل وتناغم واستقصاء ذاتي بحت قد لا يحصل حوله اجماع النّقاد والدارسين في شؤون القصيد…
فالتلقي رأته مناهج النّقد الحديث اغناء وأفق في دائرة التّواصل بين مؤلف وقارئ..
لذا أنا أبدي رأيا يلزمني في اطار نظرية التّلقي باعتباره عنصر فاعل تؤسّس لهذه المنظومة من التفاعل مع ما أسمعه وأتابعه وأتلقّاه .ويبقى النّقد من منظوري المتواضع من أهمّ الوسائل والمناهج لمساءلة النّص الشّعري والأدبي عموما ..
أعود إذن لرصد الحركة الشّعرية التي تتجلّى من هذه القصائد المشاركة في الأمسيات الإفتراضية لملتقى قناديل الفكر والأدب بإدارة د.جمال مرسي الشاعر العربي الكبير والشاعرة المتميزة سفانة اسماعيل شتات المعروفة أدبيا بسفانة بنت ابن الشاطئ والشاعرة الرقيقة نبيلة حماني
وأبدأ بخاصيّة تعيد للشّعر مكانته وتقوم على تاريخيته فقد أخذ شكل الأمسية موقعه ضمن سيرته التاريخية …
عكاظية الشّعر وملحمته التي يجيء فيها الشّعر موظّفا للتّقنيات الحديثة المعاصرة يجيئها شعراء من الحجم الثقيل وجمهور يتميّز بذائقة كبيرة يتابع عن بعد كأنه في قلب الحدث والأمسية زمانا ومكانا في مصر العريقة منبع الأدب والفنون …
فما يمكن تأكيده في هذا السّياق أنّ الشّعر بصوت ناظمه أبلغ وأشدّ وقعا وتأثيرا على السّامع ،وقد قيل أنّ الشّعر تراجع سمعا وقراءة لا كتابة
ففنّ الإلقاء صار خاصيّة هامّة تشدّ المستمع وهي تقليد يأخذ طريقه للتّرسّخ بما يحمله من جمالية وابداع وحضور ويبقى مؤشّر النّجاح فيه متفاوتا ونسبيا بين شاعر وآخر السعى لتحسينه يكتسب بالمران والتّكرار
وما لاحظته كمتابعة أنّ قوّة الإلقاء ونجاحه يبقى مرتبطا الى حدّ ما بمخارج الحروف ونطقها وفقا لأجراسها وووقعها ..وهو تقليد سيلقى طريقه بحكم الإلقاء المباشر من الشّاعر لقصيده في هذه الأمسيات ..
الخاصيّة الثّانية لعصرنة وحداثة القصيد في هذه الأمسيات
تتمثّل في مرافقة الموسيقى لها أو لبعضها بتنسيق مع الموسيقيين وهو مايؤكد أنّ الشّعرهو نظم من الكلام يمكن أن يغنّى وأنّ العلاقة الوثيقة بين الموسيقى والنّظم عريقة منذ الشّعر القديم الذي ينظم وفق بحور وأوزان وايقاعات محددة ..
ولعلّ العامل الأساسي لهذه المرافقة الموسيقيّة متأتيّة أساسا من انصهار غالب القصائد في هذه الأمسية وسابقاتها في القصيد العروضي الموزون …
وهذه الخاصية من الآفاق الحديثة التي رصدتها كمتابعة لهذه الأمسيات فهي حداثة وصناعة تضاف للشعر وترفع خدرنا ومتعتنا بالإستماع الى الشاعر ومنجزه المقرووء …
ولعلّ من نتائج هذه الأمسيات في القادم اثراء الرصيد الغنائي من قصائد تستجيب للغناء والتّغنى وترتفع بمستوى الأغنية التي طالها انحدار وتدنّ في مجتمعاتنا العربية عموما .
أمّا الخصائص الفنيّة لحداثة الشّعر في هذه الأمسيات فيمكن تلخيصها في النّقاط التّالية
ثراء المشاركات للشاعرة والمبدعة …فقد احتضنت هذه الأمسيات أصوات شعرية لمبدعات عربيات من مختلف الأقطار العربية قاطعة في ذلك مع خفوت صوت المرأة المبدعة
كما أنّ جرأة البوح وحريّة التّعبير عن الأحاسيس هي من ظواهر الإعتداد بحداثة القصيد المعاصر …فلا ثخن لوجدانها… قصائدها تشعّ عاكسة لما يحتدم بحسّها …وردت في هذه الأمسية قصائد تعبّر عن حبّ جارف للوطن …للأمّ …للحبيب…في الغربة… وفي أغراض شتّى في علاقة جدليّة مع واقعها ارتقت بقصيدتها الى شجن الإنسان وأفراحه …انتصاراته وانتكاساته….قصائد كشعاع يرتسم في أفق الشّعر
جمالية الإيقاع في هذه القصائد وهو من أهمّ الخصائص الفنيّة التي تجلّت بقوّة في معظم القصائد
فالإيقاع أول ما يشدّ السّامع وهو ثراء هامّ ولافت تأسست عليه جلّ القصائد في هذه الأمسية …
انخراط كل القصائد تقريبا في الوزن والتفعيلة وهو عودة ومصالحة وتأصيل للموروث من شعرأسلافنا الذي لا تثنيه إكراهات البحور واوزان الخليل ..
حضور الرّمزية في هذه القصائد بما لم يتوفر في متون الشّعر القديم وقد تجلت في غالب القصائد .. فلغة الشعر، هي لغة الإشارة والرمز والتلميح إذ إنه لا شعر من دون لغة رمزية، ولا يمكن أن يُعد الكلام شعرًا إن لم يكن مستفيدًا من إمكانات اللغة
وقد زخرت القصائد الملقاة بمقدرة كبيرة على التلون وتغيير الدلالات من خلال فنونها المختلفة، ..
وكم وددت الإستدلال ببعض الشذرات من هذه القصائد لكني عدلت حتّى لا أكون منحازة لقصيد دون غيره …فكل القصائد كانت لها أصداؤها الكبيرة والقويّة على سامعها
حضور الشّعر الوطني الذي اعتلت فيه الأصوات رافضة لكل قمع واستبداد وقهر لإرادة الشّعوب…
الشّعر التمثيلي الذي اندثر مع أمير الشعر أحمد شوقي في مسرحياته الشّعرية الخالدة (كمجنون ليلى وكيلوبترا )
قوّة الخيال في الشّعر بما يحقّق الإندهاش والتلذّذ…صور متخيّلة يتحوّل فيها الشّاعر الى طائر يطوي البعاد يأخذ المتلقي الى تأرجح بين تصديق واندهاش…
والعطور أنهار نستحمّ فيها ..
والعيون مأوى تمنح الظّل في الهجيرة …وغيرها كثير …
حضور الصّورة الشّعرية’ عبر أشكال ونماذج مختلفة من حيث هي تجربة وميدان خصب تحقّق الإختلاف من شاعر لآخر من حيث دفق وجدانه وانفعالاته وانسيابية مشاعره
فكل الأصوات الشعرية المشاركة في هذا التّجمع العربي الإبداعي الكبير لها طرائقها في ممارسة الشعر وامتهانه واحترافه بطيّ مجازيّ وانفلات استعاريّ وتناص وانزياخ وطباق جناس وتورية ..
والكتابة كما يراه البعض ترتبط بجمالية الذات وهي جزء من القيمة الجمالية لها ..
تحيّة لكل من أثث هذه الأماسي وعطّر ذواتنا وأولجها في عوالم الشعر الماتع وكلّ سياقاته الدلالية ومعاجمه العجيبة الثّرة
تحية للشاعر القدير الدكتور. جمال مرسي باعث هذا المنتدى المضيئة قناديله ..
تحيّة لصديقتي وتوأم روحي الشاعرة القديرة سفانة بنت ابن الشاطئ التي أعتبرها استاذتي ومرجعي
تحية للصّوت الملائكي الرقيقة الشاعرة نبيلة حماني التي بمجرّد سماعها ننخرط في عوالم من الأحاسيس والمشاعر الجميلة الهامسة عذوبة
وتحية لكل الشعراء والشواعر الذين تلألأت حروفهم في الأماس وأضاءت سماء الإبداع وملتقى قناديل الفكر والادب
منوبية غضباني / تونس
جميل أستاذة هذا الطرح الوافي للرؤية في الأمسيات الافتراضية لقناديل الفكر والأدب واسهاماتها المتعددة في تفعيل الروابط المشتركة بين الأدباء من جهة ومجتمعاتهم من جهة أخرى…