اليوم تشريني وقد بدلت السماء الوان اثوابها ، ضاع لاجاه الضحى ببراءة ، لفها الضباب لابسا قناعا مزيفا لا افهم معناه ، كانت الشمس تفيض بنورها غيبها وراء الارض ، هبت نسائم ريح جنوبية أضفى بأنفاسه البيضاء عباءة المطر مشبعة بالشوق ، تناثر الضباب بعفوية وكان يركض وراء غيمات تكدست في طريقه وكأنه يحاول مضاجعتها ، باحتفال عرسي والاشجار والعصافير تستحم بأمطار السماء .
اغراني صمتي في لحظة تتزاحم بالطابور مشاعري العميقة الناضجة وهي على أهبة الجنون تتعرى أمام نقاء مروع وزفرة شيطانية تتأهب للانقضاض على أنفاسي لتوقعني في مأزق .
انقل نظري باحثة عن غمازتين فقدتهما اثر خواء من عواطف جامحة ، تعبت فجلست على رصيفي متأملة المارة ، جلست بجانبي دون اذن مني نوارات ازهار برية صفراء اللون ، تجادلني في صوفية وعمق تأملي ،سألت عمن تبحثين وانت تحطمين قلوب النساك ، أجبتها هذا محض افتراء فما بالك في قلبي المحطم ، تبعثرت أنفاسي اللاهثة من رأسي الى أخمص قدمي ، تمزقني سكنات الغيوم في السماء ، تارة تلبس ثوبا ناصع البياض وتارة تتوشح بالسواد يتمازج ويتمواج برمادية ، تخادعني في غموضها وكأنها أنثى لعوب غريبة الاطوار لدوحة متعجرفه تغرقني في بحر من الحبر المتغير الالوان ، تعج بشوق للانقاض على رأسي بشوق ، يجتاحني ضيق وتوتر في المزاج .
تمشينا متكئين على بعضنا انا ونوارات الازهار ، فاذا بصبية في قعر الوادي الذي اعتبره مقدسا ، ابتهلت وقلت لا جف ضرع ينبوع تطل عليه صبية ، كانت نظراتها تطارد مطرا متعلقا بغيمات السماء ، ناديتها وعرفت أنها كهرمانه ، تمتلك أحجار عينيها لونا اخضرا غامقا كلون الزيتون العتيق .
كان تعلقها هشا بقدر كاف ، التقته يوما في عرزالها وهي خالية الوفاض ، في حبور انثوي آسر كعينيها ، مالت نحو كتفه لتشده وتتذوق غمار المغامرة ، كان وميض عينيه براقا كالصقر ، حدقت في الافق البعيد .
كان الوقت في غيش ، والمغيص يغوص في البحر غير متقبل ليد تمتد اليه ، غاصت في عينيه المبللة برذاذ المطر وضحكته المجلجة ملء شدقيه، امتصت بسؤالها له بهمهمه ووشوشة كما تمتص النحلة رحيقا من زهرة ، استهوت مذاقها ، لتتلاقى العيون باسمة بحبور سافر تدللت شفتيها بغنج على شفتيه ، والبوح الطازج الموجع يقض عليها مضاجع الدحنون في عرزالها .
شاغبته وشاغلته فالحب ناره حراقة ، ان امتدت أصابعه تذيت عواصفه الغاضبة كالشمع الذي يذوب بفعل فتيله، كانت في هذه اللحظة هي فتيلته، بعثرت روايات غمازتيه لتكتشف أسرار هضابه ووديانه العميقة ، تتذبذب بقواعد اللعبة التي تلعبها عصافيرها العاشقة ، ظمآنه لكشف مجرى قنواته وصلابة ذراعية المفتولتين اذا طوَّق خصرها ليزيل غبار حب حبلى في ذهنها.
كانت تفتش خارج صحن أنفاسه اللاهثة ، وتفكر بأنانيتها ، آسر القسمات هو حنانه وعاطفته رقيقة منسابه من عينية كأنها البرق الذي يومض في ليل شتوي مظلم ، كان نسغ الحياة في شرايينه قد جف بالمطلق ، والغيمات تصتك أسنانها لترسل هذا الوميض الى قلبها ،لتلحقه بزخات مطر غزير او رذاذ شفيف يشق طريقه عبر نسائم رقيقة الوجنات ، هادئة الطباع متسلله نوافذ سريرته ، كثر البوح الشغيف تحت عباءة السماء ، وأركان جسدها تجد الدفء على عتبات عينيه ، فتفتحت ابوابه الموصدة ليتفتت بين كفيها ككائن هلامي ، ختمت اللقاء بأن وشمت براجم أصابع اليد باسمه ، متكأة على غموض المشهد ودفئه .
جهاد قراعين