القطّ الأسود – بقلم انعام القرشي
عبدالرحمن ريماوي
14 يناير، 2019
انعام
264 Views
تحت الجسر، في الظلمة الحالكة، كان هنالك ضوءٌ يلمع من بعيد. للوهلة الأولى، ظننت بأنهما عينا قطٍّ جائع، يبحث عن قوت يومه، متأخراً، ومستتراً بكومةٍ من المهملات.
لست أدري، لماذا لا أتذكّر أحياناً، إلا ما هو مهمل!!
إنني أكتب الآن، عمّا حدث معي في تلك الأمسية، وكأنني أتفرّج على نفسي، من نافذة قطار، وأنا أرقص على رصيف المحطة كالجريح تحت المطر.
كنت حينها متوقفاً بسيارتي قريباً من الإشارة الضوئية، التي من المُفتَرَض أن لا تكون موجودةً في ظل وجود الجسر. لكن، يبدو أننا بحاجة إلى نوعٍ آخر من الجسور التي تربط بين الحياة كما نحياها، والحياة كما يجب أن تُعاش.
العجيب أن ما ظننته قطّاً، قد تجمّد فجأةً، واقفاً أمام أضواء السيارة دون حراك، فكان باستطاعتي حينذاك، أن أمسك به، بعد أن وقع فريسة سهلةً في شبكة ظني، مثل سمكةٍ بريّة، أطلقتْ في النور آخر أنفاسها، وأسلمت الروح تحت عنوانٍ كبيرٍ، هو “حرية الوجود”.
تجاوزتُ تلك الإشارة المستعارة، وبحثتُ عن مكانٍ ملائمٍ للاصطفاف. قبل ذلك، كانت أبواق السيارات من خلفي، تعلن بطريقةٍ هستيرية، عن موعد إضاءة الإشارة الخضراء قبل حينه.
تُرى، ماذا يعني أن يطلق شخصٌ ما، صوت بوق سيارته المزعج والمنفّر، بينما هو يرى الضوء الأحمر مشتعلاً مثل “زهرة” السيجارة، التي تثقب ستار الليل على مهل؟!
إن من يفعل ذلك، ليس في مقدوره أن يسابق الزمن. لكنه يعلن، وبطريقةٍ فجّةٍ وبدائية، عن افتقاره الشديد إلى عنصر الصبر، الذي لولاه، لم تترك الشمس مطرحها لليل الذي ننام فيه، حتى يحين موعدُ قدوم الفجر، فنستيقظ من النوم، كمن يؤدي “بروفة” أولية، لمسرحيةٍ حقيقيةٍ اسمها الموت.
يقول “الماغوط”: “لا أراهن على نفاذ الخبز أو الماء او الوقود، بل أراهن على نفاذ الصبر”
لطالما ردّدت من خلف ستارٍ من الدخان: ليتنا نفكّر بقدر ما نزمّر!!
وإذا ما تبادلنا الأفكار، فكما لو أننا نتقاذف كراتٍ من نار.
عدتُ إلى عتمة الجسر التي ظلّتْ هناك بانتظاري.. وحينما اقتربتُ منها متوجّساً، وعرفتُ ما كانت تخفيه عني، لم أستطعْ أن أضحك، لكني أيضاً، عزمتُ على أن أضحك بسبب هذا الموقف، لاحقاً، عندما تسمح لي الظروف بذلك، حتى وإن بدا حينها، بأنني أضحك كالأبله بلا سبب.
كان ذلك الضوء ينبعث من العلامات الفسفورية التي تزيّن زيّ عامل النظافة الذي كان جالساً ليستريح تحت الجسر؛ يداه نائمتان على ركبتيه، وظهره يستند إلى جدارٍ محايد.
نظر إليّ بعينٍ واحدةٍ محمرَّة، وخاطبني بشفتين يابستين، ولسانٍ من حطب:
هل تريد أن تتخلّص من شيء؟
ما إن تكلّم حتى كاد الشرر يتطاير من فمه.
أجبته، مشفقاً عليه، وساخراً من نفسي: لا، بل إنني فقط أبحث عن القطّ.
فسألني مجدداً: ما لونه؟
قلت بصوتٍ مكتوم: أظنّه أسود.
قال مبتسماً: إذن عليك أن تنتظر حتى الصباح، فالقطط السوداء لا تظهر في العتمة.
سوف يكون الغد كاليوم؛ هو الأمس، فيما لا يزال الكثيرون منا، يظنون بأن رؤية القط الأسود تجلب النحس.
عدت إلى سيارتي متثاقلاً، كأني أحمل على ظهري كيساً مليئاً بملحٍ أسود مخلوط بالسكّر المرّ.. وفي يدي نصف دزينةٍ من المفاتيح، ولمّا تزل تعلق في عينيّ، صورة “عامل الوطن”.
أعرف رجلاً معدماً يسكن في العراء، قال لي مرّةً والدموع تسيل من عينيه إلى الأعلى باتجاه السماء:
إن أكثر ما يؤلمني، هو عدم قدرتي على التواضع!!
هنالك حضرتني الحكمة القائلة: “من لم يتّضع عند نفسه، لم يرتفع عند غيره”
وفي الطريق الذي في الطريق، مدّ لي أحد المتسوّلين الليليين يده الفارغة، ولسان حاله يقول:
صحيح أن حاجتنا ماسة، لكنها عقيمة، ولهذا، فهي لن تنجب يوماً، ولداً متمرّداً على ما هو سائد؛ معناه الإبداع، ومسمّاه الاختراع.
حينما وصلتُ إلى السيارة، فتحتُ الباب وأنا أنظر إلى القمر السهران في شرفة الأفق. لكن ما كان ينتظرني في الأسفل، مفاجأةٌ غير سارة؛ لقد نسيت أن أغلق أبواب السيارة قبل أن أغادر، فكانت النتيجة الصادمة، أنني وجدت ضيفاً زائغاً ورائغاً بانتظاري.
بل إنها “ضيفة” تجلس إلى جانبي، وكأنها عشيقتي التي تركتها من قبل، تمكث وحيدةً في عهدة الليل.
رمقتني بنظرةٍ أنثويةٍ خبيثة، فخلْتُ أن عينيها تطلقان صوبي أشعةً سوداء.
ثم ضحكتْ قائلةً بصوتٍ فيه بحّةٌ وقحة: لقد أرسلني إليك الشيطان.
أنا لست مومساً. أعطني كل ما معك من مال، وسوف أغرب عن وجهك في الحال.
وإلا، فإن صرخةً واحدةً مني، ستلقي بك في غياهب السجن، ولن تخرج من هناك، حتى آتي بنفسي كي أخلصك من شرّي المُغري.
لطالما سمعت من يقول بأن الليل ستّار، ورغم ذلك، فقد كنت في موقفٍ يزداد حراجةً مع مرور الوقت. حوقَلْتُ بصوتٍ مسموع، بيد أن المرأة الغريبة التي احتلّت الكرسي المجاور في غيابي، ازدادت فتنةً وشراسة.
في العالم اليوم، لصوصٌ يقتحمون المخيلة، وآخرون يسرقون القلوب من صدور أصحابها.
لكني أخيراً كنت على موعدٍ مع الفرج الذي جاء من السماء..
مرّ فتىً نحيلٌ من أمام السيارة. كانت يده معلقةً بعنقه، فذكّرتني بقدمي اليسرى التي تعرّضتْ للكسر قبل عدّة سنوات. حينذاك، كان برفقتي أحد الأصدقاء، فأوحى له ذلك الموقف المؤثر، بكتابة قصةٍ قصيرةٍ، على ظهر ورقة الوصفة الطبية، وعلى النحو التالي:
شعرتُ بوجعٍ في القلب، فذهبتُ إلى الطبيب. وحينما دقّق النظر في صورة الأشعة، رأى وجه الفتاة التي أحبها، فقال وهو يبتسم: ليس هنالك ما يمكن أن أفعله من أجلك؛ فحبك هو داؤك، وهو دواؤك!!
ضحكنا؛ صديقي وأنا، قبل أن يلمع البرق الخاطف في العتمة.
وما إن وضع فني الأشعة؛ ذلك “الرجل الأبيض” يده على قدمي المصابة، حتى صرختُ متألماً بأعلى صوتي، فارتعبت المرأة التي كانت تجلس مسترخيةً بجواري، واندفعتْ إلى خارج السيارة مهرولةً دون أن تلتفت إلى الوراء.
يبدو أنها ظنّت بأني أصبت بنوبةٍ من الجنون، فخشيتْ أن أفتك بها على هامش الطريق إلى المصحّة الجاثمة على سفح جبلٍ بعيد.
حينها، تمنيّت أن ألحق بذلك الفتى الصغير، لأشكره على الخدمة الكبيرة التي قدّمها لي دون قصد. لكنه غاب سريعاً عن ناظري، كما هو حال تلك المرأة التي ابتلعها الظلام.
لقد كانت ثالث سفيرةٍ للنوايا السيئة أقابلها في أقل من أسبوع، خارج كلّ التوقعات.
نحن لا نحسن التوقع، أليس كذلك؟
تملّكني إحساسٌ ثلاثي الأبعاد، بصورة الحرية، حينما تكون أشبه بحمامةٍ مكسورة الجناحين.
عندما وصلت إلى البيت، كنت متعب الجسد، ومكدّر الخاطر، ولم أستطع النوم إلا بعد أقنعت نفسي بأنّ “القصص العظيمة” لا تأتي من فراغ.
وفي الصباح، استيقظت فاتحاً عينيّ بصعوبةٍ بالغة، ورفعت الغطاء عن جسدي، ثم هممتُ بالنهوض، لكني لم أتمكن من ذلك، بسبب الثقل الكبير بقدمي المحبوسة منذ المساء، في سواد الجبيرة البيضاء.
“مواطن عربي”
Like this:
Like Loading...
Related