الشاعر الكبير ابن الشاطئ وعلاقته الأزلية مع الجزائر /بقلم: سفانة بنت ابن الشاطئ

قبل البدء :
رحلة دراسية شاقة تخلّلها نضال مستمر ضد العدو الذي جثم على صدر فلسطين فكان السجن لأول مرة في ريعان الشباب وسجن مرة أخرى في دولة شقيقة بسبب نضاله وحرصه على مبادئه تعرض خلالهما للتعذيب الذي ترك آثارا واضحة على جسده رحمه الله بفضلها تعرفنا على وجه آخر للوالد لم نكن نعرفه وجهه النضالي وما مرّ به من ظلم و عذاب في سبيل هدفه المنشود، المتمثل في تحرير فلسطين كلّ فلسطين، تقاطعت الطرق بين رفاق النضال في مرحلة لاحقة فاختار الصمود والحفاظ على ركائز الإنطلاق فلا استسلام و لا سلام مع عدو ينهش بأرضه تباعا، إيمانا منه أن ما يؤخذ بالقوة لن يعود إلا بالقوة، لذا وجد في القلم سبيلا مهما لإيصال رأيه دون مواربة، وايصال رسائله بكل ثقة و تحدٍ ، كان ممن أسس تجمعا لشعراء الساحل ودعم و شارك بأمسيات عدة في لبنان و سورية، خلال هذه الفترة عمل في الصحافة والتعليم،

لحظة البدء:
وفي نهاية عام 1969 بداية عام 1970 بدأت الأبواب تفتح لكل من يحمل شهادات عليا للتدريس في دول الخليج و انهالت العروض عليه لكنها لم تشده يوما و لم تبهره رغم كل المغريات، فقد كان مشدودا لمسيرة شعب ثائر ثار بشجاعة في يوم واحد وحصد النصر خلال بضع سنوات وضحى بالآلاف وسجّل للتاريخ نصرا تليدا إنها الجزائر وثورتها المجيدة، فاتفق مع كوكبة من أصدقائه الأساتذة أن يتقدموا الصفوف للعمل فيها وكانت مقولته المشهورة للجميع، يكفي أننا لم نستطع المشاركة فعليا في الثورة النضالية فلنشارك في الثورة الثقافية والتعليمية و التعريبية، وفعلا اتجاه إليها بلهفة كبرى جعلته مع مرور الوقت يتعلّق بها جدا حتى على حساب أسرته،
بعد البدء:
فخلال تواجده في الجزائر، عرض عليه استلام مناصب عدة ومهمة في دول خليجية وخارجها كأن يكون رئيس تحرير جريدة عربية في لندن مع راتب عالٍ و فيلا و سيارة فخمة … إلخ لكنه رفض العرض بل نشر قصيدة في اليوم التالي تعبر عن رفضه وأنه لا يبيع مبادئه ولا الجزائر ولا مواقفه، بعدها عرض عليه مبالغ طائلة لتغير موقفه و مكان إقامته لكنه أيضا رد المبعوث بالحقيبة التي اكتضت بالمال رغم حاجته و أسرته له فالجميع يعلم أن الرواتب في الجزائر كانت ضعيفة مقارنة لباقي الدول،

وحين منح الجنسية العراقية، ورغم حبّه الكبير للعراق و شعبه والذي عبر عنه دوما في مواقفه و شعره وحضوره لمهرجاناته الأدبية والشعرية كمهرجان المربد، إلاّ أنه حين أراد الإختيار بينها و بين الجزائر اختار الجزائر، رغم أن العرض كان مميزا وهو أن يستلم رئاسة تحرير جريدة مهمة ومجلة أدبية لها مكانتها في الوطن العربية ، مع راتب مجزي وفيلا و سيارة، نعم ما ذكرته و سأذكره هنا هو جزء من الكثير، لكنه حين مُنح الجنسية الجزائرية كان بالنسبة له أمرا شكليا لأنه منذ سنوات تشكلّت بينه و بينها مشيمة قوية فاعتبرها وطنا حقيقيا له، لذا كانت كفة أيّ ميزان تميل لها حتما.

في مرحلة لاحقة عرض عليه أن يشكل حزبا أو أن يكون عضوا في البرلمان في دولة أخرى، والكل يعلم ماذا يعني ذلك من حصانة ومكانة و مردود مادي عالٍ ، لكنه أيضا رفض رفضا قاطعا ، واختار أن يبقى في الجزائر وأن يستمر في عطائه من خلال التعليم فعلّم آلاف مُؤلفة من الطلبة في مراحل عدة كالثانوي والجامعة والمعاهد التكنولوجية لإعداد المعلمين و كان من طلبته من يكبرونه عمرا، ابن الشاطئ هو أول من مدّ يد الدعم للمواهب الأدبية من خلال صفحات أشرف عليها إعدادا وتقديما، فولد في الجزائر الشعراء والأدباء، وأصبحت صفحاته مصدر الحديث و المتابعة، وازداد يوما بعد يوم عدد قرائها وعدد رسائل المشاركين، فقضى نهاره في التعليم و ليله في الرد على الرسائل و إعداد الصفحات، وكنا نحن أبنائه لا نراه بل لا نجده متفرغا لنا، و نحن في أمس الحاجة إليه،

كان في السبعينات يشرف على تدقيق الصحف وكان يعلم أن اسمه لن يذكر بذلك ولم يهتم لهذا الأمر بل كان همه أن تنشر المواضيع صحيحة لغويا ليستفيد الكاتب و القارئ، وأشرف تطوعا مرات ومرات على المناهج التعليمية للغة العربية ويعلم أيضا أن اسمه لن يذكر عليها، لكنه لم يتوقف على فعل ذلك أبدا، لأنه لم يهتم يوما بهذه الشكليات فقد كان همّه الوحيد أن يُقدم لطالب العلم ما يفيده و ما يزيد من علمه ومعرفته،

ابن الشاطئ الأستاذ المبدع و المتمكن الكثير من مفتشي التعليم وبطلب منهم، وكان ملجأ للكثير من الأساتذة ممن ليس لهم خبرته و معرفته وكان دوما داعما لكل من يحتاجه، بل لم يصدّ يوما صاحب حاجة أو علم، لذا أحبه كل من عرفه، منهم من اعتبره الأستاذ و المربي الفاضل ومنهم من اعتبره الأب الروحي وسبب رئيسي لحبّ العلم والشعر والأدب ، واستمرت تضحياته ففي العشرية السوداء اضطرّ لإرسال بناته وزوجته لسورية، وأصرّ على البقاء في الجزائر هو و ابنيه عدي و دريد، وحين ألحت عليه هي وبناته لكي يلم شمل الأسرة ويستقروا جميعا في سورية رفض واختار البقاء في الجزائر وأصبح الأبناء لا يلتقوا بوالدتهم إلا مرة أو مرتين في السنة والبنات لا ترى والدهنَّ إلا مرة وأحيانا مرتين في السنة، وبسبب مواقفه ومبادئه التي لا تتزحزح حروموا رؤيته لخمس سنوات متتالية اضطروا للسفر للأردن لرؤيته، ولو أراد أن يتراجع عن مبادئه لقبل بعروض مغرية وترك الجزائر و استقرّ بسورية، وهذه لم تكن المرة الأخيرة بل باتت عائلته المقيمة في سورية محرومة من حنانه وعطفه وتواجده في أهم المناسبات فلم يحضر وهو على قيد الحياة زواج ثلاثة من بناته ولم يتعرف على أصهاره و أحفاده إلا بعد سنوات ذاق خلالها طعم المرارة و الحزن،

ابن الشاطئ الوالد و الإنسان:
لم يحضر زفاف أبنائه أيضا لأنه توفاه الله قبل ذلك فقد طلب تأجيل زفاف ابنه دريد حين استقبل اتصالا من رئاسة الجمهورية الجزائرية طالبة إياه سرعة العودة من سورية لتكريمه في 6 ماي عام 2008 ، حاولت أسرته كثيرا اقناعه بعدم السفر وخاصة أنّ صحته لم تكن على مايرام، وأيضا عدم تأجيل الزفاف، وأن نجله د. عدي شتات يستطيع أن ينوب عنه و يستلم التكريم، لكنه رفض وأصرَّ على تلبية نداء الجزائر الحبيبة، سافر منهك القوى على وعد منه بالعودة لسورية بعد أسبوع، لكنه وصل لمنزله متعبا وبعد ساعتين فقط توفاه الله في 30 أفريل 2008، وكان لنجله د.عدي شتات نصيب الحضور واستلام التكريم، ولزفاف ابنه التأجيل الطويل، وكان تراب الجزائر التي عشقها دوما بديلا عن تراب وطنه فلسطين احتضنه بكل حب، كما أحبها وقد عبّرَ عن هذا الحبّ في عشرات بل مئات القصائد حيث لازال حبّه فيها متوهجا وسيبقى للأزل

رحم الله الشاعر الكبير و الوالد والإنسان المثالي اسماعيل ابراهيم شتات و الملقب أدبيا بــ ابن الشاطئ حتى حين ترك لي قصيدة خاصة تحمل على جناحها وصيّته والتي عنونها باسمي و معناه : إلى ابنتي: ” سفانة درّةٌ نادرة الوجود” كانت الجزائر حاضرة و بقوة في أبياتها بل تصدرت مطلع القصيدة :
هــبَّـتْ ريــاح الـشّـرق واسـتـمرائي … الله.. مـــا أحــلـى أديـــم فـضـائـي!!
الله.. مــــا أنــقــى حــــرارة مُــدْنَـفٍ … يــلُـج الـنـهـار عــلـى مُــنـى عــكّـاءِ
ويـجـسِّـد الأمـــل الـمـضيء مـعـانقاً … مــا شــاء مــن ألــقٍ ومـن أسـماءِ!!
فـإذا ضـحى الأوراس في (سَفَّانَتي) … وإذا الـجـزائر فــي عـبـير سـمـائي!!
أَخْـضَـرُّ فــي كــلِّ الـحقول وأنْـتَشي … أبـــداً.. وأسـتـعصي عـلـى الأنــواءِ!!
وأضـــيء مـــن مــقـل الـجـزائر أمَّــةً … لــمّـا تـــزلْ فـــي ســاحـة الـهـيجاءِ
وعـلـى زنــاد وِصـالِـها نـطـق الـهوى … فــــي لــهـفـةٍ.. جــورِيَّــةٍ.. عــــذراءِ
أَوَ لــيـس مـــن سَـفَّـانَتي مـيـعادها … رغــم الـدّجـى وبـجـاحة الـعـملاءِ؟!؟

وهنا يبرز إيمانه بأن فلسطين وثورتها و العراق وكل ثورة أبية تستمد القوة من ثورة الجزائر و أنها رمز لكل الثورات
وبــــأنّ مــــن أســمـائـهِ سـفّـانَـتي … وتــظــلّ فــيـنـا ألــــف ألـــفِ حُـــداءِ
أَوَ لــسْــتُ أدرك مــــا وراء جـبـيـنـها … في (الوَنْشَريس)..وفي لظى حيفاءِ؟
وَ لــــم تــكــن أرض الــجـزائـر ثـــورةً … عــربـيَّـةً فــــي بــعـدهـا الــوَضّــاءِ؟!
وتَـنَـفَّـس الأقــصـى حــرارة جَـمْـرِها … فـــي الـرّافـدين.. وكَـوْثَـرَتْ أجـوائـي
وإذا الـجـزائـر فـــي ضـمـيـر ركـابـهـا … نـطـق الـصّـباح عـلـى ذُرى أمـدائـي
أَوَ تــسـألـيـن الآن يـــــا سـفّـانـتـي … عــن رحـلتي فـي الـثورة الـمِعْطاءِ؟!
أنــــا يــــا بُــنَـيَّـةُ لـــم أزلْ مُـتَـحَـفِّزاً … فــي الـوَنْـشَريس وأحـتمي بـوفائي
وعـلى ضـفائر صـحوتي كَرَجَ الضّحى … فـي مـقلتَيْكِ وغـاص في اسْتِمْرائي

وكما كانت الجزائر حاضرة في مطلع القصيدة بكل بهاء كانت حاضرة في الختام أيضا حيث قال الشاعر الكبير ابن الشاطئ :
إنّــــي وحــبِّــكِ مـــا أزال كــمـا أنـــا … وطـــن الــهـوى.. ومـشـيـئة الـعـلياءِ
الله أكـــبــر فـــــي دمــــي وَقّــــادةٌ … دَوْمــاً.. وأعَـبُـر فــي خـلـيج مَـضَائي
تـحـتلُّ إحــدى الـحـسنيَيْنِ دواخـلي … فــي أمِّ أوفــى.. والـوِصـال دمـائي!!
ســفّـانـتـي أَزِفَ الــمَــعَـاد بُـنَـيَّـتـي … وعــلـيـكِ أن تـسـتَـوْعِـبي إيــحـائـي
وبــأن تـكـوني فــي عـيـون جـزائري … كــالأمـس أنــثـى الـفـجر والأنْــداءِ!!

فهل بعد كل هذا الحب و هذا العطاء و هذا الوفاء جزاء إلا مثله على الأقل فنحن ممن تربى على رد الحسن بأحسن منه، فكيف إذا كان العمل أجود ما يكون؟؟؟

 

About سفانة بنت ابن الشاطئ

Check Also

لا ليلنا ليل ولا نهارنا نهار – فاطمة شريح

تستنفزف أعصابنا ...وطاقاتنا ...وتموت بأعيننا كل بهجة أومت لنا بحضور ما ....الا أن هذا الصباح شق من فمي ابتسامة ....استغربها من حولي وقد اعتدوا وجومي وقلة كلامي

One comment

  1. الكاتب الروائي رياض حلايقه

    رحم الله الشاعر الكبير ابن الشاطيء وبارك في أبناءه وبناته الكرام الذي ن بطني بهم علاقة أخوية كبيرة

%d bloggers like this: