ابطال نسيهم المؤرخون في ذاكرة الشعب
حينما أذكر هذا الإسم الثنائي اتخيل معه الفتوة الواعية والقدرة على التحدي والمقاومة الشجاعة، ثنائي فلسطيني كان لهما الأثر قي رفع المعنويات النضالية حتى أنهما إرتفعا إلى الأسطورة الشعبية ، فهما موجودان وغير موجودان هما موجودان بناء على تقارير السلطة البريطانية وأخبار غاراتهما الصاعقة، وغير موجودان فذلك لأن وبريطانيا كانت عاجزة عن الإمساك بهما
وهناك في كل حضارة أمثال لهما، ففي العصر الجاهلي كان الصعاليك كالشاعر الشنفرى وتابط شرا والسليك بن سلكية يغيرون على مال الأغنياء ليطعموا الفقراء وفي بريطانيا روبن هود وفي اسبانبا دونكي شوت وسانشو واخير عودة ابو تايه في جنوب الأردن، هذه الشخصية محبوبة لدى الطبقات الدنيا لذلك تفوم بإثراء هذه الشخصية بما يحاك حولها من قصص وبطولات ترسخها في الأذهان
ومن الأسف ان التاريخ لم يحفط لهما عملهما، بسبب اميتهما بحيث لم يقدّرا تخليد نفسيها للأحيال القادمة وأثره على الناس، وسبب آخر هو اختفائئهما عن الأنظار بحيث كانا حريصين على خططهما كأسرار عسكرية، ومراسلوا الصحافة كانوا يأخذون الأخبار من الحكومة ، والحكومة لا تعرف ايضا اين هما، فذهبت تصفهما باللصوصية وقطع الطرق إلى ان تم شنقهما يوم 30/ 4/ 34
واعتقد ان نهايتهما الأنتقامية، فتحت الأذهان عليهما وراحت تلملم الحكايات التي قيلت عنهما، إلا انهم لم يجدوا الكثير الذي يوازي تأثيرهما، فراحت المخيلة الشعبية تروج القصص لهما فكتبت عنهما الكاتبة الفلسطينية حنان بكير القاطنة ببيروت وتحمل الجنسية النروبجية، إذ خلقت حبكة قصصية جعلت ابو جلدة يحب فتاة يهودية( اليكرا كوهين) فعملت على تسليمه للإنكليز كما فعلت دليلة بشمشون، لكنها كتبت ذلك لتخليد البطل في وجدان الأجيال ولم تكن كتابة توثيقية ، اما الشاعر هارون هاشم رشيد فقد وثق في رواية بعنوان (أبو جلدة والعرميط ياما كَسَرُوا برانيط) وهذا العنوان هو مطلع اغنية شعبية كانت تغنى عنهما،
وكان أول ماسمعت عنهما وانا طفل بيت من الشعر من عمتي فطوم عن ابوجلدة ابيات قيلت على لسانه حينما تم تحضيره للإعدام
أم أبو جلدة بالباب تنوّح مرته بتعيّط وابنه بصيح
يما ويا يمة وإن عدت مروح لذبح المشتفي في فلسطينا
وإذا بي اقرأ ابياتا اخرى قيلت على لسانه فهو ليس شاعرا
قال ابو جلدة انا الطموني كل الأعادي ما يهموني
قال أبو جلدة وانتا العرميطي وان متت بكرة بكفيني صيتي
قال أبو جلدة يا خويا صالح . اضرب لا تخطي والعمر رايح
ومن الواضح من هذه الأشعار انها ترسخ شخصيته في الوجدان
واعتقد ان فلسطين والدول العربية الأخرى لم تعرف في عهد الدولة العثمانية معنى الجيش الوطني إلا بعد ان هيمنة الأستعمار راح ينشئ جيوشا لتخدم الإستعمار وليس الوطن، اما في فلسطين فلم ينشئ جيشا ولا حكومة ولا برلمانا، بل انشأ الهاغنا لليهود، لذلك لم تكن للفلسطينيين قوة عسكرية، مما جعلهم يلجأون للتكتلات الشبابية العسكرية التي سموها العصابات، وربما هي ايضا الخلايا في عرف التنظيمات الحزبية او المليشيا في تعبرات اخرى
كان اول من شكل العصابات هو احمد طافش من صفد، بعد ان هاجمت القوات البريطانية المدينة عام 1929، تراجع إلى خارج المدينة ونظم المقاتلين في مجموعة سماها عصابة( الكف الأخضر) تلتها عصابة (الكف الأحمر )، ولقد احتذى حذوه كل الثوار كمجموعات ترتبط يعضها ببعض مثل او كباري الذي كتب سيرته نمر سرحان
وابو جلدة هو احمد المحمود من قرية طمون، يبدو انه ولد قبل عام 1900 لأنه التحق بالجبش التركي، ولكنه هرب فيما كان يسمى ( فرارات) وكان من السهل أن بظل مختفيا، لكنه ذهب إلى حيفا ليعمل في الميناء عتالا، وهناك التقى بمن يفتح له بصيرته على مشاكل فلسطين السياسية وهو سليمان العامري ، كما كانت محاضرات وخطب الشيخ عزالدين القسام طاقة اخرى شحنت ذهنه وعبقريته القياديه وعمقت إيمانه، وربط ذلك بكل ما عاشه من مشاهد في مرج بن عامر حيث اجلوا السكان من أرضهم ومنازلهم، فسدد حقده على السماسرة والإنكلير والإقطاعيين
اما العرميط فهو ليس اسما منتقى بل اسم عائلته فاسمه صالح أحمد مصطفى العرميط من قرية بيتا جنوب نابلس، وكان يعد الأقوى جسديا بين اقرانه وكما وصفه صدقي نجاتي في مذكراته حينما التقى به داخل السجن (رجل قوي البنية، شديد البأس) عينه أبو جلدة نائباً له مُطلق الصلاحيات”.كما وصف ابا جلدة (بأنه رجل نحيل الجسم، قصير القامة) ولأجل أن يبعد عنه وعن رجاله تهمة الشقاوة ارتدى لباساً عسكريا وقد زيّن كتفيه بسيفين وثلاثة نجوم، وجّر سيفاً صقيلاً طويلاً له يد مذهّبة)
يبدو انهما التقيا اثناء ثورة البراق ، ولا احد يعرف كيف ولا أين او متى ، ولكنهما بدآ العمل لتشكيل عصابة وربما كانت الخطط حاهزة في اذهانهما ومسرح عملياتهما أيضا
اشتهرت هذه العصابة وباتت تشكل مصدر ازعاج للسلطات البرطانية وزادت الشكاوي على أبو جلدة وعصابته وكثرت العمليات التي يتبناها هؤلاء الفرارات وقد توزعت عملياتهم بين الغور وجنين ومرج ابن عامر وشمال فلسطين . وفي منطقة الحولة وما حولها حيث توجهت العصابة بقيادة أبو جلده والعرميط وقارعوا اليهود الوافدين لفلسطين
. غير أن ابو جلده ورفاقه كانوا على وعي كافٍ لما يحاك ضدهم فغيروا أماكن تواجدهم وتنقلوا بين الشمال والجنوب فمكثوا في غور عقربا بين فصايل والجفتلك مدة طويلة وكانوا في الصيف يختبئون في خربة يانون شمال عقربا . وقد وجد أبو جلده والعرميط ورفاقهما المساعدة والعون من قبل الفلاحين ، وكانوا يقدمون لهم الطعام والشراب والمأوى والمبيت، وذلك اعجاباً بهما وبشجاعتهما ومواقفما المشرفة والمجابهه للاحتلال .
وقد أطلق البريطانيون اسم “طريق الحرامية” على طريق حيفا- مرج بن عامر وهو الطريق الذي اختاره أبو جلدة لانطلاق أعماله الفدائية، مستغلاً جبال المنطقة بكهوفها ومغاورها، وموقعها الاسترايتجي لمباغتة القوات البريطانية والاستيلاء على أسلحتها.
ومن القصص التي قيلت عنهما :
اولا (في العام 1933 وقع صالح العرميط و أحمد المحمود “أبو جلدة” في كمين محكم نُصب لهم بالتعاون مع أحد أقرباء أبو جلدة، وقامت بريطانيا باستدعاء خال العرميط (سليم حسين عديلي) لإخراجه وصاحبه أبو جلدة ومن معهم من المغارة التي اختبئوا فيها . وهكذا اقتيد الأبطال الى الاعتقال وهناك مكثوا في سجن المسكوبية بالقدس بانتظار حكم الإعدام( فما ضرورة مجيء سليم عديلي لكي يدخل عليهما لإخراجهم
ثانيا: حاول الاحتلال استمالة العرميط واغرائه بالعفو العام مقابل تسليم أبو جلدة أو ارشادهم لمكانه، حيث طُلب من خاله(سليم حسن عديلي) احضاره لمبنى الكشله بنابلس للمقابلة وفق ضمانات للافراج عنه.. وقد ماطل العرميط بالاجابه ليتمكن من الخروج وكي لا يُغدر به ويتم اعتقاله، ومن ذكاءه أنهم قدموا له الشاي فامتنع عن شُربه ولما أصروا أخذ الكوب الذي قدم للضابط البريطاني.) ها هو يتكرر ظهور خاله في قصة غريبة هل يعقل ان يحضر شخص خطير ومطارد إلى ضابط في نابلس برفقة خاله، فأي ضمانات تمنع الأنكليز من اعتقاله, هل بمنعهم خاله، وهل تكون المؤامرة علنية ويهذه البساطة، وهل يمكن ان يبنقلب ثائر إلى خائن بمجرد ان يطلب منه؟
ثالثا: أن الاحتلال جند أحد البدو ليلتحق بأبو جلده ثم يقوم بقتله أو تسليمه عندما تحين له الفرصه.. وبعد شهرين من رفقته لهم حيث تعاملوا معه كواحد منهم ، استغل هذا الرجل نوم الجميع وحاول الغدر بأبو جلده أثناء نومه ، فانتبه العرميط للمؤامرة فأنقذ صاحبه .انها حكاية ليس فيها ما يعني الإخلاص والفداء والتضحية مما يدل على انها مصنوعة صناعة غير ماهرة
رابعا: في مذكرات نجاتي صدقي، يخبرنا أن (العرميط) طلب من أمّه أن تحضر معها خنجراً في الزيارة القادمة لأنه سيضعه معه في قبره، وسيذبح به الخائن الذي وشى به! بينما كانت أخر كلمات أبو جلدة الذي تقدم إلى حبل المشنقة غير آبه بالضباط البريطانيين “بخاطركم يا شباب.. فلسطين أمانة في أعناقكم.. إيّاكم أن تفرطوا في حبّة رمل من أرض فلسطين”.
خامسا: هناك قصة براد بها اظهار معدن ابو جلدة وهو ما زال لصا قاطع طريق، على مخاتير القرى اصحاب الزعامة: فيقال ان رجلا وزع امواله قبل وفاته على أبنائه وبناته وأقاربه وخصص مائة ليرة للصوص ، لأن اللص يزهق روحا ليسلب منه خمسة ليرات، فبالمائة ليرة ننقذ عشرين روحا، فذهب إليه في مغارته وقال له لقد خصص لك ابي قبل موته مائة ليرة فرفضها وهو يقول له ليس بيني وبين ابيك معرفة، حتى يخصص لي مثل هذا المبلغ فقال الإبن قال لي أعطيها للص، كيلا يقتل احدا ويأخذ ماله، قال فهمت وانا اقول لك اعطيها لمختار، فذهب للمختار وقال له هذه من ابي فقال له المختار ابوك لا يعطي مثل هذا المبلغ القليل ، اريدك ان تقسم على القرآن الكريم انك لم تأخذ من المبلغ الذي خصصه ابوك
هاهو الشعب الذي احب المناضلين الصادقين فكافأهم بهذه القصص بكل براءتها وصدقها وحميميتها.