لعنة بابور الطحين – رشاد أبوشاور

لعنة بابور الطحين – رشاد أبوشاور

لعنة بابور الطحين - رشاد أبوشاور
حكاية مُرّة: رشاد أبوشاور
ما صدقت ونحن ننهي الحصّة الأخيرة، ونندفع متزاحمين من باب غرفة الصف الخامس ب راكضين لأن يوم الخميس أربع حصص، وليس كباقي الأيام ست حصص، ولهذا نخرج مبكرين، وكالعادة أتوجه إلى مخيّم عين السلطان لأزور جدتي سارة ، وكالعادة تكون قد اشترت لي حامض حلو وحضرّت خبزا ساخنا وشيئا أغمسه.
ركضت وأنا التفت صوب مخيم عين السلطان، لأنني مشتاق لجدتي سارة التي تعيش في سقيفتها وحدها، لأن خالي عبد الله يشتغل في مّد الطرق بعيدا عنها، وجدتي تبقى وحيدة.
بنات خالتي يحضرن لها كل يوم جرّة ماء تكفيها للشرب والوضوء، ويكنسن أمام سقيفتها ويفردن الحصيرة لتجلس عليها مساءً مع جاراتها اللواتي تتسلى معهن.
وضعت كتبي في غرفتنا.
أخرجت كسرة خبز من لفّة القماش وعضضت أطرافها اليابسة، وتمنيت لو أن أمي لم تمت، ولم يمزق بابور الطحين لحمها..و..تموت وتدفن في ذكرين قريتنا، وتلحق بها معزوزة أختي..ونبقى أحياء أنا وأبي والجدة فاطمة التي ماتت عندما كان أبي في في سجن أريحا.
تحسست التعريفة في جيبي، ومضيت إلى دكان عمي محمود ومددت له يدي بها فتناولها ولف لي خمس حبات تمر- الأربع حبات بتعريفة، ولكنه يزيدني حبّة- فأخذت اللفة ومضيت في شارع ينزل إلى مركز مؤن وكالة الغوث وأنا أقضم من حبّة تمر مع لقمة يابسة أبللها بريقي وأمزجها بما قضمته من حبة التمر الحلوة اللذيذة.
وصلت قبالة مخفر الشرطة الذي تفصلني عنه الإسفلت فرأيت بيوت مخيم عين السلطان على طرف الوادي، فتقافزت بحذر وأنا أمسك بفردتي صندلي. أبي قال لي عندما اشتراه لي من أريحا: دير بالك عليه..مش لازم يهترئ..ما معي أشتري لك غيره.
أنا أحافظ عليه. ألبسه عندما أروح مع أبي عند ناس..وعندما أصل باب المدرسة قبل دخول الصف..وأخلعه بعد الخروج من باب المدرسة.
هبطت عبر المسربة المتعرجة النازلة على خاصرة التلّة، فلم أعد أرى سوى بيوت عين السلطان الواقعة على الحافة، وإذ أخذت في الصعود كثرت البيوت، وسمعت نباح كلاب فعرفت أنها التي تحرس أبقار وأغنام البدو المقيمين في تلك البيوت الواقعة شرقي مدرسة مخيم عين السلطان للذكور.
لما خرجت من المنخفض جفلت من صوت ضرب قلبي: بب بب بب بب…
وقفت وأصغيت وجسدي يرتجف..وأنا أُثبّت بصري في النظر مباشرة باتجاه الصوت، فرأيت مصدره، والبناء الواقع على يسار الطريق، والدخان الذي يصعد منه و..ماء يتدفق من ماسورة في خاصرته في بركة صغيرة..ما هذا؟! بابور طحين! و..قبالة سقيفة جدتي على الطرف المقابل!. ماذا تفعل جدتي وهذا الصوت يضرب في رأسها طيلة الوقت؟ متى بدأ تشغيل هذا البابور؟ ألم يجدوا سوى هذا المكان على مقربة من سقيفة جدتي؟!
ضاق تنفسي، ومشيت مستعجلاً باتجاه غرب المخيم لأتجنب سماع صوت البابور ورؤيته، ولكنه بقي يلاحقني وإن خفّ قليلاً بعد أن دسست إصبعي الشاهدين في أُذني…
وصلت قرب البيوت المغطاة بالقرميد على سفح جبل (قرنطل) فجلست على حجر ووضعت رأسي بين يدي وانتبهت إلى أن جسدي يترنح يمينا وشمالاً ودموعي تسيل.
وقف رجل كبير في العمر بالقرب مني وربت على كتفي:
-مالك يا شاطر؟
هززت رأسي ونهضت واتجهت من غرب المخيّم إلى شرقه فارتفع صوت البابور بببببببب…
أسرعت في سيري وأنا أتمنى أن لا أجد جدتي في سقيفتها حتى أُغادر بسرعة عائدا إلى مخيم النويعمة.
كلما اقتربت من شرق المخيم يرتفع هدير البابور، ويزداد قهري وحزني وغضبي..ولا أدري ماذا أفعل.
باب سقيفة جدتي مفتوح.وقفت في باب الحوش ورغبت في النداء على جدتي كما أفعل عادة بفرح فانحشر صوتي وحشرج.استندت على الجدار الطيني والصوت يدوي: بببببب بب بببب…
استدرت واتجهت شرقا وعبرت الإسفلت..وأسرعت وبلغت باب البابور..وعبرته بسرعة. اقترب مني رجل مغطى وجهه ورموش عينيه وشعر رأسه بالطحين وأحنى رأسه:
-شو بدّك يا شاطر؟
-انقلوا البابور…
ظهرت أسنانه مع صوت غريب يشبه الضحك:
_شو قلت يا..ولد؟
-البابور قتل أمي..و..بيذكّر جدتي..وبيخليها تبكي..و..بيحرمني آجي عندها من مخيم النويعمة…
-شو بتحكي يا ولد؟ إنت في عقلك؟ إحنا ملناش أربعة أيام مشغلين البابور…
أجهشت بالبكاء وأنا أغرس إصبعيّ في أذني واستدرت بسرعة مبتعدا عن الرجل المغطّى بالطحين و..وأسرعت على الإسفلت باتجاه مخيّم النويعمة، تاركا سقيفة جدتي خلفي.
شعرت بأن طعم التمر في فمي مُر.
هبطت الوادي، وحين أخرجت إصبعي من أُذني اخترقهما الصوت الذي عاد يرّج بدني: ببب بب بببب ببببب ببببب…
تصاعد غضبي وأنا أُركّز نظري على بناء البابور فرأيته يحترق ويتصاعد لهيبه عاليا مع دخانه..فتنفست بعمق وأدرت ظهري، ولكن الصوت عاد للدوي في رأسي: بببببببببببببببب…
*انكسر خشب سقف بابور الطحين تحت قدمي أُمي فسقطت على (القشاط) الحزام العريض الذي يدير البابور..فتسبب بتمزيق جسدها: فخذها..وذراعها ..وثديها..وماتت في مستشفى في القدس بعد ثلاثة أيّام..ودفنت في قبر مع أهلها في قريتنا ذكرين..وأنا لا أتذكّر ملامحها فقد كنت في حدود الرابعة من عمري.

About abdulrahman alrimawi_wp

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: