كعب عالٍ … سمر الزعبي

 

منظرٌ غير محبّب، ذاك الذي أبدو عليه وأنا جالس على الكرسي، قدماي لا تصلان إلى الأرض، فأزحف ما ينوفُ على عشر سنتمترات إلى الأمام، كي تستقرّا، لكنّ ظهري يظلُّ مستندًا على الهواء، فما أن تنفضّ الجلسة، أو ينتهي الدوام حتى أقوم من مكاني متصلّب العضلات.

اعتدت على وضع وسادة خلف ظهري، لكنني لم أشعر بالراحة قط، مهما يكن، فهذه طقوسي منذ أيام المدرسة، والجامعة أيضًا، لكن بلا وسادة طبعًا. ولا أشكّ البتّة أنّ قِصارَ القامةِ يعانون من مشاكلَ صحيّة في عامودهم الفقري، أو أن أغلبهم أكثر عرضة للإصابة بالدسك من الآخرين.

بحثت في عمرٍ أبكرَ عن أي مساعدٍ قد يفيد في زيادة الطول، طبّيٍّ أو مُستخلَصٍ من الأعشاب وما نحوَ ذلك، لكن أخفقت محاولاتي، طوّفتُ عن طريق شبكة النت على عمليّات جراحية للإطالة، وكنت مهووسًا بها لفترة، حتى أيقنت أن تكاليفها تفوق مسطاعي، مهما وفّرت من المال. 

لو كان من الّلائق أن أنتعل الكعب العالي لفعلت، كم خامرتني هذه الفكرةُ إلى حدٍّ جعلني أنتقي حذاءً نسائيًّا مناسبًا لمقاس قدماي الصغيرتين نسبيًّا، أنتعله، أتجوّلُ داخلَ الغرفة، ثمّ أراقب طولي وهيأتي التي أبدو عليها بالحذاء النسائيّ أمام المرآة، أُفتَن بنفسي، رغم أنّي غير فاتن، فعضلاتي التي حرصت على تمرينها تبدو أكثر جاذبية، وكرشي المنتفخ الصغير يبدو مشدودًا، ومقبولًاأكثر.

تمنّيت لو أنّي على قدرٍ من الجرأة يخوّلني فعل ذلك على مرأى من الناس، عساها تنطلق صيحةً في مدينتنا الصاخبة.ألعن الفكرة الرعناء التي تدور في ذهني، وأطلق الأمنيات بأن يفعلها الشباب قبلي، فأتماهى مع الموظة فيما بعد، المهم ألّا أكون في “بوز المدفع”.

 فكّرت أن أفصّل حذاءً رجّاليًّا لدى المصنع، وليكن على ارتفاع عشر سانتيمترات باستقامة واحدة، انطلاقًا من مقدّمة القدم ووصولًا إلى الكعب، بطابع رجولي تام، كي لا يشبّهني أحدٌ بالنساء إن كان كعبًا رفيعًا، ثمّ أرتدي بنطالًا طويلًا يغطي الكعب.

أتخيل نفسي أقوم بذلك، لكني سرعان ما أُسكِت جنوني، رجلٌ أربعينيٌّ أنا، محاسبٌ في شركة اتّصالات محترمة، كيف لي أن أغامر بسمعتي، لا، لا أظنني أفعلها، سوف يشكُّكون برجولتي.

المرور على ذكر العمر يستفزّني، فالنساء لا يلتفتن إلي، يهربن من رجلٍ لا يتعدّى طوله مترًا وأربعين سانتيمتر، ويعتبرن مغازلتي وقاحةً وتقليلًا من شأنهن، بينما يرتمين في أحضان زملائي.

كم تمنيت أن تكون لديّ علاقة جادة بإحداهن، علاقة حقيقية، أن تحبّني أنثى من كلّ قلبها، وأعيش معها طقوس الحبّ والشوق والغيرة، لكن أيّان لي من هذه التفاصيل.

 أيقنت من علاقاتي النادرة على مرّ سنيّ عمري أن هذا أمرٌ مستحيل، هنّ بصراحة يقرفنَ منّي، وإن حظيت بمجالسة ستكون من أجل أن أدفع الحساب، أيّ حساب: فاتورة غداء في مطعم مكلف، فاتورة ملابس لهنّ وإكسسوارات، حتى أن إحداهنّ جعلتني أسدّد فاتورتيّ الماء والكهرباء خاصّتها، وأخرى كلّفتني فاتورة عقد من ذهب، ولمّا يحين شوق القبلةِ يفتُرن، يفترن جميعهن، كأنّ حظّي ما زال عالقًا في سماء الفاتورة والفتور.

لم تحبني فتاة أو امرأة لشخصي، بل لم يقعن في حبّي قط، وكنت كلّما عاكست إحداهنّ في صغري توبخني، تشتمني، ترمقني بسخرية، تبصق بوجهي، ولمّا تخطّيت العمر القانونيّ للشيطنة تظاهرت بشيء من الوقار. مررت بمواقف محرجة جرحت مشاعري، وكثيرًا ما أُهينت كرامتي، ولم أكن محظوظًا بزواج تقليدي، مهما بدوت أنيقًا، متعلّمًا، أو مؤهّلًا للزواج.

 قبل أسبوعين سمعت من زملائي عن شركة أدوية عالميّة شهيرة، أعلنت عن حاجتها لأشخاص لديهم قابلية الخضوع تحت تجارب الأدوية، كي يتبيّنوا آثارها السلبية قبل طرحها في الأسواق، وذلك مقابل أجرٍ معيّن.

كنت مستهترًا أهوجًا لحظتها، ربّما لأنني مللت حياتي الفارغة، وسئمت من قضاء أوقات فراغي في المقاهي، وفي النوادي الرّياضيّة. فانضممت إلى الأسماء الموجودة، استعدادًا للتحوّل إلى فأر تجارب. أعرف أنه كان بإمكاني فعل أي شيء آخر، وأن هذا الجنون غير مبرّر، لكنني فضّلت خوض التجربة.

ابتدأت برنامجي مع الشركة، واليوم هو أول يوم لي، تناولت حبّتين من دواء تمّ تطويره مؤخّرًا، ثمّ جلست في غرفة الاستراحة أشغل نفسي بأي شيء: بمراقبة المراجعين (البنات تحديدًا)، أو بالهاتف، أو بتصفّح مجلّات موضوعة بشكل منظمٍ فوق طاولة تعلوها واجهة من زجاج، وتحملها أقدامٌ خشبيّة مذهّبة.

تعاطفت مع فتاة ترفع بكلتا يديها أكياسًا ممتلئة، وتضمّ بعضدها ملفًّا يشبه ملفّي، مما جعلني استدلُّ على أنها فأرة تجارب مثلي، عندما حان دورها لتسجيل الأوراق، حاولتْ أن تضع الأكياس على الأرض، كي تحرّر إحدى يديها، فسقط بعضٌ من أغراضها، قمتُ بدافع الشهامة أساعدها في التقاط الأوراق، وما تبعثر من مستحضرات تجميل فرّت من الأكياس، فشكرتني وهي ترتبها فور تقديمها لموظفة الاستقبال.

عرضت عليها أن أرافقها كي أدلّها على الإجراءات، بدت في حالٍ بالغةٍ من التّعب، فوافقت، وفيما كنّا نمضي بالمعاملة والفحوصات، كنت أحمل عنها الأكياس جميعها، متسائلًا عن محتوياتها، فأخبرتني أنها تبيع مستحضرات التجميلمن خلال التجوال بين المحلّات، حتى عُرفت بجودة بضاعتها وتمّ اعتمادها من قِبل البعض.

تأمّلتُ نعومةَ تقاسيمها، بل تفاصيلِها كلّها، وتنبّهت إلى أنني أطولُ منها بقليل، حتى أن الأمر حدا بي للنظر إلى حذائها أكثر من مرة، ذاك الذي لم يكن بكعبٍ عالٍ كما تفعل الفتيات كي يُبرزنَ أجسادهن، وأظنّ أن طبيعة عملها تحتّم عليها ذلك.

استأذنتُ حينماآنَ موعدُ فحوصاتي، وقبل أن أبتعد اقترحتُ عليها أن نشرب القهوة في «كافيه»قُبالةَ الشركة، فوافقت والخجل بادٍ في حمرةِ خدّيها.

مرّت الفحوصات ببطء فيما كنت أنتظر لحظةَ لقائها، أستدعي تقاسيمها الناعمة، ثمّ جمعتنا طاولة بوجهٍ من زجاج، تحملها أقدام معدنية ذهبيّة، في «كافيه»هادئ. عمّا قليل رحتُ أغسل وجهي من حرارة الجو، أفرك يداي تحت الماء، بعدما صارتا دبقتين من التعرّق، أتذكّر قولها: “سمارك حلو”، الذي لم أسمعه من أي فتاة من قبل. وحينما عدت وجدت النادلَ يُقدّم إليها ما تبقّى من مال بعدما دفعتْ الحسابَ في غيابي.

المزيد من اعمالها

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

ندامة الكسعي - مما اعجبني

ندامة الكسعي – مما اعجبني

استخدم العرب تشبيه "ندامة الكسعي" لوصف أسوأ حال يصل إليه المرء عند الندم، وتأتي القصة لرجل كان يرعى إبله في البر فرأى شجيرة يصلح خشبها للسهام فسقاه

%d bloggers like this: