في الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان
محمود شقير
الأخوات والأخوة/ الصديقات والأصدقاء
نلتقي هذا المساء لنحتفي بالذكرى الخمسين لاستشهاد الصحافي الأديب القائد المناضل الشهيد غسان كنفاني.
ونلتقي لنحتفي بذكرى غسان في الدورة الخامسة لملتقى فلسطين للرواية العربية، وعبر أنشطة ثقافية أخرى من بينها جائزة غسان كنفاني للرواية، الجائزة التي تحمل بجدارةٍ اسم الراحل الكبير؛ الذي ما زال نجمه ساطعًا في سماء فلسطين وفي سماوات أخرى عديدة، وسيظل ساطعًا مبشرًا بالحرية وبالعدالة للشعب الفلسطيني، ولشعوب أمتنا العربية وللمظلومين في العالم المتطلعين إلى الكرامة والطمأنينة والأمن والأمان.
نحتفي بغسان ونتذكر كم كان تأثيره علينا نحن جيلَ مجلة “الأفق الجديد” المقدسية الذين ابتدأنا الكتابة أوائل ستينيات القرن العشرين، فظهر منّا شعراء وقاصون ونقّاد، ولم يظهر من بيننا آنذاك روائيون، لأننا كنا ما زلنا نخطو خطواتنا الأولى على درب الأدب، غير أن رواية غسّانَ الأولى “رجال في الشمس” ظلّت تحرضنا على كتابة السرد، بعد أن تأثرنا بها وبقصصه المتميزة التي ظهرت في “موت سرير رقم 12″، وفي “أرض البرتقال الحزين”.
كان غسان بفعل نشأته ومعاناته المبكّرة من النكبة المأساة التي شردته من وطنه عام 1948، قادرًا على التقاط أدقّ التفاصيل، وعلى الاستفادة مما يقرأه ويجرّبه ويسمعه ويراه، ما مكّنه من تحقيق النجاح منذ أولى القصص وصولًا إلى تلك الرواية التي لفتت الأنظارَ وظلّت تحظى بانتباه النقّاد والقراء منذ صدورها عام 1963 وإلى الآن.
وما جعل غسّانَ أقربَ إلى نفوسنا، ظهورُ صديقه الناقد المثقف محمد خالد البطراوي في أفق الثقافة الفلسطينية حين جمعتنا معًا مجلّة “الأفق الجديد”. كان محمد قد جرّب سجونًا عدّة من جرّاء انتمائه السياسي، ثم سافر إلى الكويت بجواز سفر مزوّر أواخرَ خمسينيّات القرن العشرين، والتقى هناك بغسّان، وأقام الإثنان مع أربعة فلسطينيين آخرين في بيت مشترك، ولم يلبث محمد أن رحّل من الكويت مع مئات اليساريين الفلسطينيين والعرب، وعاد إلى الضفة الغربية التي كانت جزءًا من الأردن.
كنّا في بعض الأمسيات نطوي شوارع القدس حينًا وشوارع رام الله حينًا آخر وصديقنا محمد يحدّثنا باستفاضة عن غسان، عن موهبته، وعن جَلده وإقباله على التزوّد بالثقافة، عن القصص الجميلة التي كان يكتبها، وعن فن الرسم الذي كان هوايته الأثيرة، وعن تمكّنه من التقاط كلّ حادثة يستمع إليها أو يشهدها، فيبادر إلى إدخالها في مصهر ذاته، ينفعل بها ويضيف إليها ويعدّل عليها إلى أن تخرج عملًا قصصيًّا فيه فرادة وإبداع، أو إلى أن تتخلّق رواية مكتملة الصفات كما هي حال “رجال في الشمس” التي ابتدأت من حادثة حقيقية كما يقول صديقنا محمّد، لتستقرَّ الحادثة وقتًا غير قليل في أعماق غسّان، وليشتغل عليها بعد ذلك، وليشير من خلالها إلى الشعب الفلسطيني الذي خضع للهزيمة، مُدلّلًا على هذا الخضوع في الموت المجاني لثلاثة فلسطينيين اختنقوا داخل خزّانٍ في شمس الصحراء من دون أيّ تمرد أو احتجاج، ومن دون أن يدقوا جدران الخزان.
كنّا نشعر بارتياح لأحاديثِ محمّدٍ عن صديقه غسان، غسان الذي كنّا نغبطه على إبداعه المتميز، ونتخذ منه ومن جدّه واجتهاده حافزًا لنا على الاقتداء به. وكنّا حين نمعن في الخيال نرانا ونحن نمشي معه في شوارع القدس، ونراه وهو يجلس معنا في مقهى المدينة، ثم نذهب معًا إلى مقرّ المجلة التي صنعت بداياتنا في الكتابة، وكانت المجلة تتوق إلى أن تنشر على صفحاتها بعض قصص غسان.
وحين التقيناه في بيروت للمرّة الأولى والأخيرة عام 1965 شعرنا بأنّنا نعرفه حقّ المعرفة، وكان هو بطلعته البهيّة وقامته العالية يتحدّث معنا بأريحيَّة وانسجام، فكأنّه يعرفنا مثلما نعرفه، فازدَدْنا من جرّاء ذلك شغفًا بما يكتب، وبقينا على صلة وثيقة بأدبه الذي واصل إنتاجه بغزارة لافتة، وبتنوّع مدهش من دون توقّف أو خضوع لأيِّ مؤثّرات.
كانت هويّتنا الوطنية والإنسانية تغتني باستمرار ونحن نقرأ غسان، وكان النضال من أجل حرّيّة فلسطين يُشكّل كلمةَ السرّ الثابتةَ بيننا، خصوصًا وهو يخاطبنا من منفاه في بيروت ونحن نحيا في الجزء الشرقي من القدس، فنواصل الكتابة في “الأفق الجديد” لعلّنا نسهم بقسطٍ ما في المسيرة التي ابتدأها غسّان قبلنا ببضع سنوات.
وقد فاجأنا غسان قبل أن نُبتلى بهزيمة حزيران 1967 حين لفتَ أنظارنا إلى أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، هذا الأدبِ الذي لم يكن لنا ولا لغيرنا في الوطن العربي علمٌ به، ففوجئنا ونحن نقرأ لشعراء وقاصّين لم نسمع بهم من قبل: أبو سلام/ إميل حبيبي، حنّا أبو حنا، توفيق زيّاد، سميح القاسم، محمود درويش، توفيق فياض، سالم جبران، راشد حسين وآخرين.
وكنّا في تلك الأثناء لا نَكفّ عن متابعة الوجهة التي اختارها غسان، إذ كرّس للسياسة اليومية وللأنشطة النضالية جزءًا غير قليل من اهتمامه، إلى جانب ممارسة الكتابة من دون انقطاع. وكما هو معلوم؛ فقد ظلَّ يناضل من أجل حرية فلسطين بالقول وبالعمل حتى لحظة استشهاده، ضاربًا المَثلَ بسلوكه اليومي وبثقافته القومية التقدّمية الإنسانية والتزامه الوطني الأصيل.
فلم تتوانَ الأجيالُ تلوَ الأجيال عن الاقتداء به، وما زالت هذه الأجيال وستظل تقتدي بغسان وتواصل التصدّي للاحتلال الصهيوني ولمخططاته؛ تلك المخططات الرامية إلى تهميش القضية الفلسطينية وتصفيتها؛ عبرَ مختلف الإجراءات العنصرية والممارسات الفاشية، وعبر الاستفادة من التطبيع الذي أقدم عليه بعض الرسميين العرب، لدمج دولة الاحتلال الصهيوني في المحيط العربي، بدعم وإسناد من الولايات المتحدة الأمريكية، ولصرف الأنظار عن الخطر الحقيقي الذي يهدد شعوبنا، وللتغاضي عن الاحتلال الجاثم على أرض فلسطين وعلى أراضٍ عربية أخرى، وللترويج لثقافة غريبة بلا طعم سوى طعم الخواء، وبلا لون سوى لون الهوان.
وإزاءَ ذلك؛ سيظلُّ شعبُ غسّان، بدعم من شعوبنا العربية الأبيّة ومثقفيها الأحرار، وبمساندة من قوى الحرية والتقدّم في العالم، وفيًّا لأفكار القائد الثائر وإبداعات الأديب الفنّان، وسيواصل هذا الشعب المعطاء، نضالَه التحرري، مهما تساوق المطبّعون مع المحتلّين، ومهما غلت من أجل فلسطين الأثمان.