أرشيف حديث القصيد - فطنة

الرؤيا في قصيدة “شلال الوجع” للشاعر زياد السعودي / د. فطنة بن ضالي

    

 تأمل وتفكير في الذات المتشظية وأنات أوجاعها حزن عميق طويل عبر عنه الشاعر في القصيدة، إبحار موغل في الذات الجماعية، بين تأمل في الجسم العربي المثخن جروحا، وما نتج عن ذلك من وجع عميق متزايد ومستمر تعاني منه الذات الشاعرة، عبر عنه الشاعر بصور بليغة مؤثرة، بداية بالجملة الشعرية الأولى (أديروا القهوة السادة ) حيث يدل السواد فيها على الحزن والقتامة، وهي مصدرة بفعل الأمر “أديروا” و يؤكدها سطر شعري آخر مضيفا وصف المرة (أديروا القهوة المرة )، حزنا وقلقا من تأزم الأوضاع، ولا يسع الشاعر أمام هذا الوضع إلا أن يتحمل مسؤوليته معبرا عن وعيه وعن مواقفه كما يقول جابر عصفور ” فيأتي الشاعر، مشروطا باللحظة التاريخية التي يتولد فيها كالشاهد أو العراف محكوما بها كالضحية ليغوص في أعماق الجرح كالباحث عن أصل الداء، أو يحلق في مدائن اللحظة التاريخية كغيمة لا تمطر إلا الأسئلة”1 . تلك الأسئلة التي لم يجد لها شاعرنا جوابا فقد أعيته الحيلة في التماسه، يقول معبرا عن ذلك :

ولا أزمات تنفرج

وقد ضاقت بي الحجج

     وبهذا، يمضي شاعرنا ملبيا دعوة الشعر مصورا معاناته وحزنه وألمه،

صارخا في وجه التعاسة، مغلوبا على أمره، بصور شعرية مجازية، تعمق المعنى منها  :

أمط مدى مجازاتي

أخاتل وجه مرآتي

فتحقنني تآويل الرؤى تلفا

  فقد عبر هنا عن موقفه الشعوري بدرجة عالية من الانفعال بواسطة الصور المركبة من الحسي والتجريدي المعنوي، في الفعل (أمط مدى…، وأخاتل ..المرآة)، حيث الإحالة إلى التعبير عن الحال في الأسطر الشعرية المبلورة للصور المجازية الدالة على ضبابية الرؤيا المستقبلية، إذ يسعى الشاعر من خلالها إلى تجاوز الواقع، بالصور الخيالية، التي قد تعيد تشكيل هذا الواقع بشكل جديد على مستوى الإبداع وفق التجربة الشعرية والرؤيا التي يصبو إليها الشاعر مصورا ذلك، لكنه هنا دون جدوى، إذ تتيه به التفسيرات، وتتلف الرؤيا، هي بحق صورة معبرة عن المعاناة، أعطت أبعادا لتآلف الصوت والمعنى في الدلالة على حرارة الموقف وتعقيد المشهد. ويزيد قائلا :

أنا المهزوم  مذ غزت

عروش البغي في ظهري الذي نزفا 

تقيأت القصائد في مناحاتي

لأندبني وأحكي سر مأساتي

   إذا كانت القصيدة الحديثة قد غدت رؤية شعرية عمادها تقنيات فنية “تجعل الفكر شعرا، والشعر فكرا في الوقت نفسه” 2 ، فإن تأمل الواقع والتعبير عنه في الإبداع يخلق عند الشاعر زياد السعودي علاقة وطيدة في تأمل الذات الفردية باعتبارها واسطة إلى تأمل الذات الجماعية، معبرا عن واقع سلبي في قوله (المهزوم ، تقيأت ، أندبني )، حالة نفسية مزرية ، تسممت منها القصيدة، مع الحزن العميق، على الأوضاع العامة. وهكذا، يعمق الشاعر صورة الحزن والكآبة والهموم الملازمة له،  من جراء أثر التحولات التي وقعت في الوطن العربي ، مستحضرا الوضع الماضي (أنا من أمة كانت مكرمة) وزمن تسمية (هلال الخصب ..)، ويقارنه بالوضع الحالي ، وما آلت إليه اليوم الأوطان يقول :

وأدمى العلج بغداده

ودمع الشام مدرار

وفي لبنان أكدار

وفي ليبيا لظت نار

وذا يمن سجين خانه الجار

   خيال خلاق مبدع الصور الفنية الموحية المشحونة بطاقة عاطفية حركت وأسبغت على الأمكنة أبعادا أخرى على مستوى الصورة المتخيلة مبينة العلاقة الوطيدة بين الأمكنة وحزن الشاعر وقلقه وإظهار انفعالاته وتوتره،  ذلك أن هذا الإحساس هو منبع الصور،  قال الناقد صفوت عبد الله الخطيب: “إن الصور من حيث هي صور أو مثل للأشياء لا توجد إلا في اللحظة التي نتأملها فيها ، وكلما تجدد التأمل تجددت هي أيضا، أي خرجت من القوة إلى الفعل،  إذ ليست الصور الكامنة موجودة إلا بالقوة، أي إنها استعدادات نفسية يتركها فينا الإحساس، أوهي كفاية المخيلة للتخيل “3.

     وتتكئ  القصيدة على الصور المجازية  الإستعارية  بكثرة منها :(صبوا الليل في عصبي ،…الحلم لأصطاده ، اشرب مر أتراحي ، ضاقت بي الحجج ، دمع الشام مدرار..ألخ.) وذلك للدلالة على ما يعيشه العالم العربي من تراكم الأزمات . وحزن الشاعر لهذا الوضع، وتأمله له.   

       جاءت جل الأفعال المضارعة  في القصيدة  مسندة إلى ضمير المتكلم إما ظاهرا أو مقدرا ، كما أتي الضمير  في بعض المواضع بارزا منفصلا ،  وذلك ليجسد الشاعر مأساته للقارئ ، فيحيل به إلى  ذاته أولا، ثم إلى”العربي” بصفة عامة في السياق الحضاري ، كما قال جابر عصفور في تأملات حكيم محزون : “يبدأ من خطاب الذات التي تنقسم على نفسها في فعل التأمل ، فتغدو فاعل التأمل ومفعوله ، في آن مرورا بضمير المتكلم الذي هو المخاطب بمعنى من المعاني وانتهاء بتوجيه الخطاب إلينا ، عبر وسيط هو حكاية رمزية .”4

 والقصيدة  وإن كانت على مستوى البناء متسقة مشدودة الأوصال ، فإنها مسكونة  بالآخر المعبر عنه بضمير الغائب (هم، هو) في مقابل” أنا الشاعر” والمستفاد من قوله :

لا يبقون لي حلما لأصطاده

يفرعن في الكنانة قمع فجار

فلسطين …

لم تزل تشكو حصان طرواده.

وإنه سارق الأحلام ، طاغية ، سالب الحقوق بالحيلة ، يرمز الشاعر  إلى كل ذلك مستغلا أسطورة حصان طرواده، من أجل تكثيف الصورة وإيحائيتها على مستوى المعنى.ومن التقابلات التي استعان بها الشاعر استعمال الطباق في  (اختلف / ائتلفا ، أفراحي / أتراحي).

    وإذا وقفنا عند بعض كلمات وتعابير معجم القصيدة فإننا نجد  أولا:( الوجع،  حزني ، أزمات،  ضاقت ،مر ، الويل ..) وثانيا: ( السواد ، الليل ، العتمة ،  النار، أسماء الأمكنة ) ، حيث يدل الأول على الحزن والألم، أما الثاني  فيدل على الطبيعة وعلى أمكنة محددة جغرافيا ، وعلاقة الاثنين معا علاقة وطيدة تتجلى في توحدهما في ذات الشاعر، إذ ما يجري في واقع الأمكنة، ( سوريا ، العراق ، ليبيا ، اليمن ،مصر)،هو سبب حزن الشاعر المعبر عنه .بلغة مشحونة بالألم وبالطاقة الإيحائية ،فالطاقة الإيحائية للكلمات على حد تعبير كمال خير بك ” لا يمكن أن تتحقق وتكتمل إلا عبر العلاقات التي توجه التقاءها وتراكيبها في الخطاب ، فجمال اللغة في الشعر كما يعبر أدونيس إنما ” يعود إلى نظام المفردات وعلاقاتها ، بعضها بالبعض الآخر، وهو نظام لا يتحكم فيه النحو ، بل الانفعال والتجربة “”5.    

    في القصيدة إيقاع معنوي وصوتي قوي جدا تدل عليه المقاطع وتساويها من حيث  ائتلافها وترتيبها ، ونمثل له بعلاقة المقطع الأول والمقطع الأخير إذ  يتكاملان في المعنى والمبني، ، وكذلك  ببعض الأساليب الإنشائية وتكرارها مثل النداء (وا أسفا، فواعسفا) الدالة على الندبة ، و تكرار القافية والروي في كثير من الأسطر رغم اختلافها : (هم ، غم /أفراحي ، أتراحي / مناحاتي ، مأساتي ) ويزيد التشابه في الصيغة الصرفية قوة ، مع تشابه أواخر المقاطع : (الساده،  تسهاده، لأصطاده، أعياده..الخ) كل هذا يؤثر في القارئ ثأثيرا قويا.

  وهكذا، فالقصيدة كثيرة الصور الأدبية التي تتألف من مواقف متخيلة مبنية على  الاستعارة والمجاز، أو ما يسمى بالمؤشرات الأسلوبية – كما قال تمام حسان – التي  تكون ” انحرافا، إن لم يكن عن قياس لغوي ، فهو انحراف عن توقعات السامع “6. وهذا ما  يحقق التأثير على المتلقي، حتى إن البلاغيين قالوا في وصف مثل أسلوب هذه القصيدة : أسلوب جيد السبك ، لطيف العبارة ، حسن الديباجة ، له ماء ورونق .

    امتازت لغة القصيدة  بالإيحائية والتكثيف الدال على الانفعال والقلق والتوتر ، والكشف عن موقف الشاعر، وعن رؤيته، في إيقاع قوي مؤثر، وهذا ناتج عن قدرة الشاعر على تحقيق الانسجام في تجربة فكرية إبداعية متميزة، لها القدرة والكفاية في التأثير في المتلقي يصدق عليها قول عز الدين إسماعيل : “والقصيدة الواحدة  قادرة دائما  على أن تحقق  (…) الغايات  المختلفة بالنسبة للأفراد المختلفين ، فهي في الوقت الذي تغير فيه موقف بعض الأفراد، تعدل من موقف بعضهم ، كما تؤكد موقف آخرين .”7 .    

الهوامش

1- جابر عصفور ، رؤيا حكيم محزون، دبي الثقافية ، مارس 2016، ص18.

2 –  نفسه  ، ص212.

 3- الخيال مصطلحا نقديا بين حازم القرطاجني والفلاسفة ، صفوت عبد الله الخطيب ، فصول م 7، ع3/4، 1987، ص 62.

4 –  رؤيا حكيم محزون ، ص218.

5- حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر ، دار الفكر ، ط2، 1986،ص 148.

6 – تمام حسان، المصطلح البلاغي القديم في ضوء البلاغة الحديثة ، فصول م7،ع 3/4، 1987 ص33.

7-  عز الدين إسماعيل ، الشعر العربي المعاصر ، دار الفكر ، ط3،  ص 394.

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة

خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة سقيفة المواسم الألكترونية جاءت قصص صفاء فارس الطحاينة وهي فنانة تشكيلية وصاحبة ذائقة فنيّة رفيعة تجمع بين تموجات وظلال الخطوط وإيقاع الحرف الشفاف،

%d bloggers like this: