الجاحظ

عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي وكنيته أبو عثمان ، من بني كنانة، بن خزيمة من مضر. ولد في البصرة سنة 160 هـ تقريبا. ولقّب بالجاحظ لجحوظ في عينيه.
نشأ الجاحظ في بيت متواضع من أبوين فقيرين. ولم يتحدث الرواة عن أبيه، وإنما ذكروا جده الذي كان يعمل جمّالا عند بني كنانة. توفي أبوه وهو طفل، فتعهّدته أمّه، فكان لا بد أن يحيا في عوز وضيق.
وراح يبيع السمك والخبز ارتزاقا على ضفاف نهر سيحان في البصرة.
كان ميّالا منذ حداثته الى الدراسة والعلوم، فأكبّ على العلم يطلبه برغبة شديدة، فصار يختلف الى بعض الكتاتيب، وحلقات المسجديينّ في البصرة، ثم في المربد، وهو سوق قرب البصرة كان في الإسلام كسوق عكاظ في الجاهلية. وكان المربد ميدان التنافس بين الخطباء والشعراء.
فاكتسب الجاحظ علما وثقافة ومعرفة. وتلقى العلوم والآداب على أيدي جماعة من كبار أساتذة العصر وأدبائه ومفكرّيه، فغدا طالب علم للأخفش، والأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي زيد الأنصاري، يدرس عليهم، ويتعمّق بعلومهم ومن ثم ينتقل الى حلقة إبراهيم بن سيّار فيتأثر به، ويضحى واحدا من المعتزلة كأستاذه النظّام البلخي أحد أئمة المفكرين، وشيخا للمعتزلة في ذاك العصر.
وكانت لمعتزلة تؤمن بالعقل، كما كان علم الكلام والجدل موضوع كل مجلس، وكل منتدى، فنزع الجاحظ نزعة إعتزالية … وإذا كان اساتذة عصره قد طبّعوا الجاحظ بميزات فكرية وأدبية ولغوية وعلمية فريدة، فإن المعتزلة تركت آثارها العقلية عميقة في كتاباته، وطرائق تفكيره وتآليفه. وبات له نمط واضح ثابت، يستدلّ عليه من كتبه، ومن موضوعاته.
(1/6)

ولم يمض وقت طويل حتى إذا أحس باكتمال القوى، قصد بغداد، وأقام فيها. وهناك بزغ فجر الجاحظ، وأخذ يتألّق، واضعا كتبه الأولى منسوبة إلى عبد الله بن المقفّع، وسهل بن هارون، ليقرأها الناس وتشيع بينهم. فأصبح اسم الجاحظ يتردّد على كل شفة ولسان. وكثر الحاسدون، فأرادوا تقليد أسلوب الجاحظ، والإنتقاص منه، إلّا أنّهم لم يفوزوا.
وقرأ له الخليفة المأمون بعض كتبه في الإمامة، فأعجب بها، وقدم إليه أبو عثمان كتاب «العباسيّة» فنال ثوابه. وما كان من الخليفة المأمون إلّا أن أسند إليه ديوان الكتّاب، الذي لم يطل الإقامة فيه، وبعد ثلاثة أيام طلب الجاحظ من الخليفة إعفاءه من هذه المسؤولية التي تحتّم على صاحبها طبعا رصينا، ومسلكية صارمة لا تتلاءم ومزاج الجاحظ وطبائعه. وتوطّدت روابطه بكبار رجال عصره، فاتصل الجاحظ بمحمد بن عبد الملك الزيّات وزير المعتصم، وكتب له ومدحه، وأهداه كتاب «الحيوان» فأجازه الوزير بخمسة آلاف دينار، ثم أغدق عليه مالا كثيرا جعله يقوم برحلات عديدة إلى دمشق وأنطاكيا ومصر …
ولما صارت الخلافة الى المتوكل، نكب الوزير ابن الزيات بيد القاضي محمد بن أبي دؤاد، فهرب الجاحظ، ثم أعيد الى القاضي مقّيدا، مغلول العنق، معتذرا عن فراره، وقد أبدى إبن أبي دؤاد إعجابه به، فقال «أنا أثق بظرفه، ولا أثق بدينه» . وقدم إليه الجاحظ كتابه «البيان والتبيين» ، بعد أن انقطع إليه عاما كاملا. وتدرّجت إتصالاته حتى بلغت الفتح بن خاقان، فقدم له بعض كتبه. وجعله المتوكل مؤدبا لأولاده. ولما رأى بشاعته صرفه. وقد حدّث الجاحظ في ذلك عن نفسه، فقال: «ذكرت للمتوكل لتأديب بعض ولده، فلما رآني استبشع منظري، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وصرفني» .
واتصل أبو عثمان أيضا بإبراهيم بن العبّاس الصولي، وقد أهدى
(1/7)

إليه كتابه «الزرع والنخل» فمنحه جائزة مقدارها خمسة آلاف دينار.
وفي أخباره أنه زار سامرّاء أيضا، واللاذقية، وحلب، إلى أن استقر في البصرة مركز تأليفه وكتاباته، وفيها شرع يصنّف ويؤلف، فأخذت حياته تتبدّل من الفقر الى الغنى، ومن الصنعة الى الإنتشار، حتى ذاع صيته وملأ دنياه.
كان الجاحظ أسود اللون كجدّه فزارة، قصيرا، دميما، جاحظ العينين، قبيح المنظر. إلى أن قيل فيه:
لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا … ما كان إلا دون قبح الجاحظ
وهو نفسه كان يتحدث عن قبحه. فقد روي أن إمرأة طلبت منه أن يصطحبها إلى دكانه أحد الصاغة، فلما وصلت هناك قالت للصائغ: «مثل هذا» ، وانصرفت. فسأل الجاحظ الصائغ، ماذا قد عنت المرأة بقولها ذاك، فأجابه بأنها قد طلبت رسم صورة شيطان على فصّ خاتمها، فاصطحبتك لتمثيل صورته. وهذا ما يؤكد بشاعة الصورة التي كان عليها.
ومهما تكن تلك البشاعة، فإن الجاحظ لم يكن ثقيل الظل، وإنما كان لطيفا محبوبا، عذب اللسان، قوي الشخصية. إستطاع بصفاء قلبه، وصدق واقعيته، ونفسيته المرحة أن يجمّل بشاعته ويزيل ما فيها من قرف واشمئزاز.
لقد تمتّع بطلاوة الحديث، ورطوبة الفكاهة، ورقة الدعابة. ومنح أبو عثمان ذكاء فائقا، وملاحظة دقيقة، وصراحة مطلقة، وعقلا راجحا، وثقة وتفاؤلا عميقين ما جعله رجلا عزيز الجانب غير مكروه، ومحبّبا غير محتقر.
ينتظر الناس فرحه الحاضر، وبديهته اليقظة، إنتظارهم كتاباته ونوادره وطرائفه.
ظلّ الجاحظ عطاء يفيض، وفكرا يدفق، حتى أصيب بالفالج ثم بالنقرس. وقد عانى أبو عثمان من هذه الأمراض آلاما شديدة قضت على عنفوان رجل أراد أن يستمرّ بعطائه الفكري من أجل الحياة والإنسان.
(1/8)

وفي أواخر حياته، سعى إليه المتوكّل طالبا إيّاه، فأجابه الجاحظ: «وما يصنع أمير المؤمنين بامرىء ليس بطائل، ذي شقّ مائل، ولعاب سائل، ولون حائل؟» . وقال المّبرد: «دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له:
كيف أنت؟ قال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير لا يشعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه» .
ولم يهجره الألم؛ بل تفاقم. وظل يرافقه مرافقة الكتب له. وما كاد يطوي صفحة من صفحاتها، حتى طوت سطور أيّامه الأخيرة بسقوطها عليه، مشكّلة قبره الذي أحب مغمورا بالورق والأحرف والكلمات.
وهكذا كانت ميتة شهيد الكتاب سنة 255 هـ.
للجاحظ أكثر من مئة وسبعين كتابا بين رسالة صغيرة ومؤلف، إلا أن معظم هذه الآثار لم يسلم.

أكمل القراءة

الذهاب الى مدونة العصر العباسي

About عبدالرحمن ريماوي

Check Also

صِلِ الكرامَ

صِلِ الكرامَ وإنْ رموكَ بجفوةٍ – صالح بن عبدالقدوس

صِلِ الكرامَ وإنْ رموكَ بجفوةٍ صالح بن عبدالقدوس صِلِ الكرامَ وإنْ رموكَ بجفوةٍ فالصفحُ عنهمْ بالتَّجاوزِ أصـوَبُ واخترْ قرينَكَ

%d bloggers like this: