وفاء أخضر

أعتذر أنّني لبنانية! – وفاء أخضر

أعتذر أنّني لبنانية! – وفاء أخضر

ارتعد جسدي بغتة، كأنّما صاعقة اخترقته. هل انتهى كلُّ شيء؟
هل بدأ حتى ينتهي؟ لربّما رؤيتي لنفسي وللعالم تحتاج تصويبا!
لكن ما معنى أن تكوني طفلة خائفة طوال الوقت؟ خائفة وأنت نائمة من فَلَقة تطال قدميك بدعوى أنّ أوان الصلاة قد فات! نعم، كان أبي ينتقم منّا لنفسه ولقهره. كان مستسلما دوماً للسّلطة، للفقر، ولجسده، ولإله جبّار متسلّط يخشاه، و يبكي له وهو يصلّي ويدعوه مرارا وجهارا؛ يدعوه أن يقيه عذاب النار في العالم الآخر، متجاهلا آلامه وآلامنا هنا في هذا العالم! كان قانعا بما هو عليه، هو ملك أو إمبراطور بين جدران منزلنا المتواضع. يفعل ما يريده؛ باتفاق غير معلن مع أمّي التي كانت لا تنفكّ تشكوه وتشتمه و تشتمنا في غيابه؛ فهي وللمفارقة تكره جنسها وتؤمن في سريرتها بأنّ هذا هو أقصى ما يمكن أن تمنحه الحياة لإمرأة، جسدها مجموعة عورات وعقلها ناقص.
يوم دخل أبي المنزل ذاك اليوم، كنت أخالني أكرهه. يومها دخل بعد غياب قسري عن البيت لمدّة ليلة كاملة؛ وهو الذي لا يعرف من الحياة إلّا العمل والبيت والجّامع. دخل برفقة اثنين من الرّجال المسلّحين وهو الّذي كان يتحاشى السياسة كأنّها وباء؛ كنّا جميعنا في حالة وجوم…
جلس على السرير مكسورا، منهكا كما لم يكن يوما، أو كما لم أعرفه. اقتربت أمّي منه وهي تولول وتسأله عن الحكاية، أجابها أنّ هذا الذي حصل كان مجرّد دغدغة، وأنّه إن لم يتعظ، حينها الجنّ الأزرق لن يعرف له طريق.
باختصار، المؤدِّب كانت إحدى القوى المتواجدة، وضربات السَّوط التي أكلت لحم ظهره والتي كاد يغمى عليّ لمّا رأيتها، كانت تترافق مع أسئلة حول إسرائيل والتعامل معها وحول من الذي جنّده. وبالطّبع كان أبي ينكر، والضربات تزداد ضراوة! حتى أنّه كاد يشكّك في نفسه و يصدّق أنّه فعلا كان يتعامل سرّاً مع إسرائيل؛ حتى ساعة الإفراج عنه. حينما اقترب منه الضّابط المسؤول، وهمس له بابتسام مزموم: ” عليك يا حاج ألا تُغضِب س. ف. ولمّا يطلب منك طلبا، عليك أن تلبيه في الحال. هل فهمت؟” كان س.ف. ذاك أحد وجهاء الضيعة الميسورين وكان قد طلب من أبي أن يغيّر له بوّابة منزله الحديدية ( كان أبي حدّادا افرنجيا )، كان جواب أبي أنّه سيفعل لمّا ينتهي من الورشة التي هو مكلّف بها، إذ أنّه قد حدّد لصاحبها موعد تسليم وهو بالطّبع عليه أن يلتزم به. ( أبي كان حريصا على أن يكون صادقا، أمينا.) وبالطّبع الأسياد تفترض الطّاعة العمياء عند عبيدها! وكان عقاب عصيان أبي لسيّده شديدا.
ذاك اليوم كان مِفصليا في حياتي، عدا عن أنّي اكتشفت حبّي الشديد لأبي. وعدا عن أنّي اكتشفت أنّه أضعف من أن يحمي نفسه، بات عليّ أن أعترف أنّي أحيا في عالم خارجي، مجتمع، وطن، وأنّ جزءا كبيرا من مشاكلي وعائلتي يتعلّق بقوانين وسياسات هذا الوطن.
كان صعبا عليّ أن أحلم بوطن، كنت كالمولود أعمى لا يستطيع تخيّل الضّوء واللون. ولدت في مكان يردّد فلسطين، سوريا… وأسماء زعماء عرب وأسماء زعماء طوائف… لم أكن أعرف عن الجمهورية اللبنانية ورئيسها والتي المفترض أنّي مواطنة فيها؛ إلا أنّها جمهورية شتات وتشرذم وخنوع. (وهذا عرفته مع بدء تفتح وعيي ) إذ إنّ أمّي كانت لا تنفكّ تشتم وتولول قائلة أنّ بيتنا مشتّت “فارط” كحكومة سركيس (رئيس الجمهورية وقتها). إخوتي، هربا من مصير كمصير أبي” المؤمن الفاضل”، القانع النائي بنفسه عن السّياسة؛ أحدهم دخل حزب الحرّية، وآخر الجبهة العربية، وآخر الجبهة الشعبية. ولكن عاد البيت كلٌّ منهم بعاهة وإصابة؛ أحدهم في قدمه والآخر في يده والثالث في بلاء حمله للعائلة كلّها! إذ أنّ حركة حلم وهي الحزب المهيمن على الجنوب وقتها كانت على عداء مع حزب الحرّية.
علاقتي مع الوطن كانت بغصّة، وعلاقتي مع السياسة كانت بخوف وعدم ثقة! كنت أراها من قذارة ونفعية وعدائية وتسلّط وظلم… حاولت واعية ولاواعية أن أنأى بنفسي عن الشّعور بالعجز والقهر. وأخذت أتخلّى عن الدوائر الواسعة التي من المفترض أنّي أنتمي إليها، واحدة تلو الأخرى: الأمّة العربية التي لم و لا تقدّم سوى الخذلان والخسارات( تتنازعها حروب تبدو اعتباطية عبثية خرقاء، منها حرب العراق على الكويت مثلا، أو حرب السّعودية واليمن… ) وبعدها تخلّيت عن دائرة الوطن الميؤوس منه، ومن ثم عن دائرة المجتمع الذي يسوده رجالات المال والأحزاب ويسمّونهم “أوادم”! و أخيراً دائرة العائلة، التي ينهش أفرادها بعضهم البعض بابتسام. تبقّت لي دائرة نفسي. أخذت أُشرّح فيها؛ أصول وأجول وأضيف أفكارا وأحذف أخرى. وأقنعت نفسي أنّ مشكلتي هي كيلوات دهن مكدّسة فوق بطني وبثور تحتلّ وجهي، وبلاهة تستعمر عقلي، وحرمان عاطفي متعاظم منذ طفولتي الأولى. خضت حروبا ضروسا مع نفسي( يبدو لا مفرّ من الحروب)… حتى تزوجّت. ( كنت أصبحت ممشوقة القد ، بدون بثور ، ومجازة في الفلسفة وعلم النفس ).
اعتقدت وقتها أنّ بيتي الذي اهتممت بكلّ تفاصيله، وعائلتي الجديدة التي أؤسّس هما واحتي وراحتي وأماني ومحطّتي الأخيرة، لا سيما أنّ زوجي من الطّبقة التي يحسب لها ألف حساب اجتماعيا؛ ووطني ودّع الحرب الأهلية إلى غير رجعة كما زعموا.
شغلتني دائرة منزلي وأولادي. وتجاهلت وجعي وخلافاتي المبدأية مع زوجي، حول القيم وأولوياتها. تهت بين طمأنينة ظاهرة وبين شعور بالقلق عميق لا يفارقني. حاولت أن أصدّ ق الظّاهر وأغرق فيه. أردت أن أرتاح. و بين قلق كامن وأمان عائم، كبرت ابنتي. وكانت أخذت عنّي ومنّي أحلام الحرّية والعدل، وكنت قد بدأت مزاولة مهنة التعليم؛ فإذا بي وجها لوجه أمام تلاميذ يتعلمّون الكذب والنفاق وحبّ أسياد الطوأئف وكره الوطن، حبَّ الله وكره العدل والحقّ والحرّية. وقرّرت أنّ عليّ أن أناضل، حتى لا تكون ابنتي يتيمة مثلي؛ وحتى يكون لتلاميذي مساحات حلم. أناضل في دائرتي.
وكان يوم، صديقتي عينها أيّام المظاهرة ضدّ الاحتلال الاسرائيلي، تدعوني لمظاهرة في بيروت ضدّ الطائفية وزعماء الطوائف. وذهبت أنا وأولادي( زوجي كان لا يؤمن حتى بجدوى الحلم بالتغيير، وأراد كما جيله فرض هذا على الأجيال الجديدة بدعوى أنّ لبنان ليس وطنا حقيقيا، “كان هيك_ هكذا _ وسيبقى هيك _ هكذا! “
مشيت في شوراع بيروت، وأنا أحمل طفلي على أكتافي، بزهو. سأناضل لأن يكون لك وطن يا صغيري! كبر الحلم لحظتها واتسع، إذ إنّ المتظاهرين ملأوا السّاحات. كانت الورود تنهمر من شرفات البنايات فوقنا وكذلك حبّات الأرُزّ… كان صوتي هذه المرّة أعلى من صوت صديقتي. لكن سرعان ما أُجهض الحلم قبل أن ينضج أو حتّى يزهر. خاف زعماء الطوأئف، تكاتفوا، ووأدوا الثّورة.( كان وقتها ،حلم الرّبيع العربي، الذي أُجهز عليه بقسوة، باسم الدّين والطوائف وبأسماء أخرى في أكثر الدول العربية).
عدت الى السّبات. حتى انتفض اللبنانيون مرّة أخرى. غاباتهم احترقت وأخضرهم بات أسود كما حاضرهم. الوطن غمرته النفايات، وحيتان المال والسياسة طمعوا حتّى في الواتساب الذي كان اللبنانيون عبره يحوّلون وجعهم نكاتا. وانطلقت الثّورة عارمة من جديد، شاملة كلّ الأراضي اللبنانية. عاودني الحلم.
وشاركت، وصديقتي عينها التي كان أجمل ما فيها إيمانها بالحلم والفرح وبجذوة الثورة التي لا تنطفئ!
لكن ما حصل أوّل مرّة حصل هذه المرّة وبضراوة وبذات التعاضد بين زعماء الطوائف.
انا الممزّقة في داخلي وفي ذاكرتي وفي مشاعري، كنت أصبحت هشّة. لم يعد عندي قدرة على احتمال نذالة ” الكبار” وهم يمنعون على أولادنا الحلم: “لتحيا في هذا الوطن كن لصّا سارقا لخيرات الوطن أو عميلا، بائعا خائنا بقلب بارد ( ليس لإسرائيل فحسب ،ولكن لكلّ الدّول الأجنبية التي تتقاسم الوطن وأرضه وأهله).
اجتمعت مع مجموعة من الشّباب الذين كانوا يحلمون بحياة نظيفة وبوطن حقيقي. وأخذوا يتحدّثون عن اليأس الذي يمرّره لهم الكبار، كلّ الكبار..
وجدتني أقول بكلّ صدقي وبكلّ دموعي :” لا تصدّقونا نحن الكبار، نحن الجبناء، نحن المرضى، نحن فاقدو اليقين والإيمان. لا حياة بدون يقين. وهبَّ أحد الكبار “العاقلين” الذي كان من المفترض أنّه من الثوّار المؤمنين. وأخذ يخوّفني ويخوّفهم قائلا : “كلّنا مراقبون، الثّورة لن تجدي، وكلّنا سنعاقب، ولبنان سيبقى هيك كما هو. “
وجدتني فجأة أنهار، وأصرخ بكلّ ما أوتيت من قوّة:
لا. لا. ستكون لأولادنا حياة. سيكون لأولادنا أرض ووطن.
أخذوا أحلامنا وعمرنا. لن يأخذوا لبنانكم. كان ابني آدم معي. كان خائفا. لم يفهم انفجاري المباغت غير المتوقّع ذاك (إذ كنت أبدو هادئة متّزنة) . أخذت أردّد له ولهم: لا. لا تثقوا بهم. لا تثقوا بي. نحن فشلة، كذبة، جبناء. هل تسمعني يا آدم؟ لا تكن جبانا كأمّك! الخوف وحده عدوك. هل تسمعني يا آدم؟
وقدت سيارتي، وأنا أبكي، وأتمتم في لحظات هدوئي، بين شهقة بكاء وأخرى:
“أنا اعتذر لك يا آدم… أنا أعتذر لك يا حبيبي… أنا أعتذر عن الحلم… أنا اعتذر عن الأمل… أنا اعتذر عن أنّي أمّ… أنا أعتذر عن أنّي حبيبة… أنا اعتذر عن أنّي عربية… أنا أعتذر عن أنّي لبنانية… أنا أعتذر عن أنّي أؤمن بالإنسان. أنا أعتذر من الله لأنّي ضعفت وخذلته مرارا؛ وما زلت أفعل. هم أقوى منك يا الله هنا… هم يتحدّثون بلغة الدّم والموت والمصالح والاستراتيجيات، والأسلحة، وكلمات اخرى لا أفهمها. أنا يبدو حمقاء من زمن الخوف، من زمن الصدق والورد والحبّ. هنا كلّهم يا نيتشه قتلوا الله ويقتلونه! هنا كلّهم يجهزون على ضمائر أولادنا وعلى أحلامهم يقدّمون لهم الدّخان والسّلاح والخوف والجبن. يسحلون الموسيقى ينهشون الحنو، يرتدون القلنسوات والعمائم… صليبهم حربة و….
هل عليَّ أن أصمت أبدا؟ هل انتهى كلُّ شيء فعلا؟
أعتذر أنّني لبنانية! – وفاء
من رواية ( أنا أخطىء كثيرا) وفاء أخضر
أعتذر أنّني لبنانية! - وفاء
أعتذر أنّني لبنانية! - وفاء

About abdulrahman alrimawi_wp

Check Also

ستنجلي الغيوم – مها حيدر

لم يكن مفاجئًا ، صوت الانفجار ولا الدخان ولا منظر سقوط الأبنية ، كان أبي يحضن اختي الصغيرة ذات العامين ودموعه تتساقط على لحيته وقد بللت ثيابه ، الخوف في عينيه على اخوتي بعد أن فقدنا امي قبل يومين أثناء سقوط الدار على رؤسنا بعد قصف شديد أحرق الأخضر واليابس ..

%d bloggers like this: