“نقطة في أول السطر” – بقلم انعام القرشي
عبدالرحمن ريماوي
14 يناير، 2019
انعام
536 Views
تبدأ الحكاية بدمعةٍ ساخنةٍ على خدّ العروس.. وكأننا نتحدّث عن نقطةٍ بيضاء في أوّل السطر!!
إنها كارثة يا “سالم”.. قال أحدهم لرفيقه وهما يفترشان الرصيف. ذكّرني كلامه بالزير سالم.. حتى وصلتْ بي الأفكار إلى طريقٍ مسدود، واصطدمتُ بجدارٍ مصمت، مكتوب عليه بالخط الأحمر العريض، أحد أخطر الأبيات الشعرية في معلّقة “عمرو بن كلثوم” الشهيرة:
ألا لا يجهلنّ أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ترى، هل حقاً ما يزال الزير سالماً؟
ثم، أليس من الأصح أن نسأل: أين هو “الزير”؟
ما أنا إلا طينٌ يفكّر في أحدى أشدّ مراحل التاريخ العربي وقعاً على النفس.. فيعود إلى أصله البعيد المتجسّد في الصلصال.
انظري يا عيني إلى هذا الصلصال، كيف يتحوّل إلى فخّارٍ بعد أن يُشوى في النار.
وحيداً أتمشّى في وسط البلد. بائع عصير قصب السكّر يشكو لي وهو يرفع حاجبيه: عقلي يغلي..
قال ذلك بين جرعتين متلاحقتين، فشعرت حينها بأنّ أحلاهما مرّ.
بعد قليل، سمعت أنباءً منقولة عن دائرة الأرصاد، تفيد بأن هنالك منخفضاً جوياً سيصل غداً قادماً من قبرص.
كنا من قبل، نرسل إلى ذلك البلد الجميل، الذي لم يبرح مكانه في شرق حوض البحر الأبيض المتوسط؛ الكثير من المطرودين، والمنفييّن، والمُبعَدين.
وكان ذلك البحر الوفيّ، يقف معنا، حتى لو كنا نعمل بجهلٍ ضد أنفسنا.. ولم نكن نأبه بكون السباحة فيه، قد تخفّف من حدّة الغلواء، وتقلّل من منسوب الغباء.
الآن، نحن نرسل إلى تلك الجزيرة الساحرة، التي كانت يوماً مستعمرةً بريطانية، أعداداً كبيرةً من المصطافين في فصل الصيف، وفي المقابل، فإننا نستقبل العديد من المنخفضات الجوية القادمة من هناك في فصل الشتاء.
إنها فرصةٌ مواتيةٌ لنا جميعاً، لكي نفكّر – ولو مؤقتاً- بعقولٍ باردة.
ما أنا على يقينٍ منه، بأنه لا معرفة بلا فلسفة، ولا فلسفة بلا تأمل، ولا تأمل بلا عقل بارد.
تذكّروا معي: الرؤوس الحامية، أودت بنا إلى الهاوية.
فبفضل تلك الرؤوس:
دخلنا في حروب غير متكافئة، فخسرناها.
طردنا حرّاس العقلانية خارج أسوار حياتنا العالية، وأسلمنا قيادنا لأمواج العاطفة الجارفة.
رأينا صور بعض الزعماء العرب على سطح القمر.
أدرنا ظهورنا للحقائق الدامغة، وجرينا على غير هدى، وراء سراب الأوهام، و ضلال الأساطير.
حكمنا على أنفسنا بالسجن بين جدران الذاكرة الصماء، وخلف قضبان الماضي الصدئة.
وهذا النوع من السجون، هو الأقسى على الإطلاق؛ لأنه -أولاً- يقبع في داخلنا.. ولأننا -ثانياً- نحمله معنا أينما ذهبنا..!!
أعود إلى البيت، فآكل الخبز الحاف، وأشرب الماء وأنا أغمض عينيّ على بحرٍ جاف..
ثم أنزوي في أحد الأركان بهدوء، مصغياً لقصيدة الشاعر الكبير “حيدر محمود” بصوت المطربة المحلّقة “ماجدة الرومي”:
هل ظلَّ «للمُسْتعمرينَ» يدٌ في ما يَحلُّ بنا .. وقَدْ رَحَلوا؟!
أمْ أنّها يدُنا التي فَعَلتْ في «حالِنا»، اضْعاف ما فَعَلوا؟!
نحن لم نتعلم بعد، من التجارب وهي تصادق على الحِكم؛ كيف لنا أن نكفّ عن ممارساتنا القهرية، في (معاداة الذات).
لست أدري ماذا أقول لك أيها الوعي؛ أمسكين أنت، أم محظوظ، لأنك لا تجد لنفسك مكاناً بيننا!!
سألتني أحداهن يوماً: كيف لمن يعيش مثلك حاملاً كل هذا الهمّ، أن يتذوق طعم النوم؟!
فأجبتها على الفور بسؤالٍ آخر: ومن قال لك يا سيدتي بأني ذقت يوماً طعمه!!
إنني بالكاد أشم رائحته من بعيد، فأشعر بأني أغوص في الوحل الممتد أسفل مستنقع تأويل الأحلام، التي لم أعد أراها منذ وقتٍ طويلٍ في المنام.
مرّة بعد أخرى، تأخذنا العزة بالإثم، ونصفّق للوقت وهو يتسّرب كالماء المبصر، من بين أصابعنا العمياء.
وإذا ما ظهر بيننا من يريد أن يغيّر شكل الواقع، فإننا نبتسم في وجهه، ثم سرعان ما نلقي بأفكاره الجديدة في سلة المهملات.
لأنها تكشف عن ضعفنا الشديد في تجاوز ما ألفناه واعتدناه.
تاريخنا القريب، يفصح عن هذه الحقيقة المؤلمة بوضوح.. وواقعنا الراهن، يهزّ رأسه بالموافقة المشفوعة بالأسى.
في حين يظل السؤال الجوّال مدويّاً في الأرجاء:
من نحن؟
إنه سؤالٌ يخترق صدرونا كالسهم.
لكننا لا نموت، بل وكما لو أننا نعيش فقط لكي نخدم ذلك (السيّد) الذي يقرّر لنا سلفاً؛ الطريقة التي نشعر بها، والأسلوب الذي نفكّر به.
أعني: (الصنم الخفيّ)، الذي يحدّد شكلنا من الداخل، ويرسم طريقنا إلى كل ما من شأنه أن يتلاءم مع هذا الشكل الأشبه بالطبل الأجوف.
ومنه تصدر الأوامر- بالإيقاع- سواءً بالحركة أو السكون.
ولذلك، فإننا نشعر أحياناً، بأن ما يجب أن يحدث، يخضع للمصادرة قبل أن يحدث بالفعل.
والآن، تقدموا قليلاً نحوي، وانظروا معي لما أنظر إليه:
لقد ذهب الفتى الولهان ليقطف وردةً حمراء لفتاته الجميلة، بحماسٍ شديد.. وحينما عاد ليقدمها إليها، لم يجدها بانتظاره حيث كانت.. فأحس بأنها قبل أن تغيب، خطفت قلبه.. وبعد غيابها، قطفت يده!!
“مواطن عربي”
Like this:
Like Loading...
Related