الحمد لله الذي علّم بالقلم ، علم الإنسان مالم يعلم ، القائل في كتابه الكريم :
{ وَلَقَدْ نَعْلَم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمهُ بَشَر لِسَان الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَان عَرَبِيّ مُبِين }.
والصلاة والسلام على أشرف خلق الله ، النبي الأميّ ، المعجز ببيانه ، والقائل : (( إن من البيان لسحراً )) ، وبعد :
رغم تربية القرآن العظيم والرسول الكريم للذوق البشري بعامة ؛ أدبه ، وبيانه ، وسلوكه ، وآدابه ، والارتقاء به فكراً وروحاً وبياناً ، إلا أنه من المؤسف جداً ومما يحزّ في النفس أن نسمع من يتّهم القرآن الكريم أو الرسول بأنه قضى على عصر الفحول من الشعراء ، وأخرس بعضهم عن قول الشعراء أو جاء شعرهم ضعيفاً واهياً لا يرقى إلى المستوى الأول الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، مدللين على ذلك بأقوال من الأقدمين والمحدثين ، فهل من كان مدرسة للبيان يُرمى بهذه التهمة ؟ أم هو الحقد على الإسلام وماجاء به ، ولا أقلّ من ذلك سوى الجهل بما ورد من نصوص شعرية ونثرية في عهد النبوة والخلفاء !!
والحقيقة أنه لما أسند إليّ هذا البحث (الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء) تكشّف لي عن ثراء هذه المرحلة بالشعر المحكم المؤثّر ، وبالشعراء البارزين بصدق عاطفتهم ، وفي المقابل بدأت تسوَدّ في عيني صفحة من يدّعي الثقافة والتمدّن وهو ينزع عروقه وأصوله بنفسه ، ولا أدري أمُفاخرٌ أم هو مُجاهر ؟.
ولقد أحببت في مقدمة بحثي هذا أن أمهّد أولاً بإحقاق الحقّ وإبطال الباطل
في ذلك الخطاب الشعري بالحجة الساطعة التي تلجم كلّ متشدّق ، وهي :
موقف القرآن الكريم والرسول من الشعر .
ثم تناولت الحديث عن الخطاب الشعري في ذلك العهدين في مبحثين مهمَّين ، هما : أغراض الخطاب ، وخصائصه الفنية مع الشواهد .
راجية من الله التوفيق والعون والسداد ..
التمهيد
موقف القرآن الكريم من الشعر :
إن من أكثر الأقوال اعتدالاً في موقف القرآن من الشعر هو : أن القرآن الكريم لم يصور حكماً معيناً على الشعر كفنّ ، ولم يتخذ من الشعر موقفاً خاصاً ، وهو لا يتحدث عن الشعر بخيرٍ أو شرّ ، ولم تُذكر لفظة الشعر إلا في آية واحدة ، قوله تعالى :
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }( ).
بل إنهم يشيرون في هذه الآية والآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ }( )، أن الإسلام قد حمل حملة عنيفة على الشعراء ، وأن الشعر قد ضعف بسبب انشغال العرب بهذا الدين الجديد ، وقد غاب عن أذهانهم إن كانوا من المتأملين والمتدبرين لكتاب الله أن بلاغة القرآن الكريم وفصاحته ، وهذا السر الذي يكتنفه ويأسر النفوس والألباب – حتى إنها لا تدرك سببه غير الشعور بهذه اللذة فيه – ، أضف إلى هذا توجيه القرآن للقلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون وإلى خفايا النفس البشرية ، كلّ هذا هو مادة الشعر والفن ، ثم إن في القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ( ).
أما احتجاجهم بالآية الأولى فإنا نعلم أنه لم يمنع من الشعر من أجل أن كان قولاً فصلاً وكلاماً جزلاً ، ومنطقاً حسناً ، وبياناً بيناً ، كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة ، وحماة الفصاحة واليراعة ؟. وهذا جهل عظيم ، وليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة ، بل سبيل الوزن في منعه إياه سبيل الخط ، حين جُعل لا يقرأ ولا يكتب ، في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط ، بل لأن تكون الحجة أبهر وأقهر ، والدلالة أقوى وأظهر ، ولتكون أكعم للجاحد وأقمع للمعاند ، وأردّ لطالب الشبهة ، وأمنع من ارتفاع الريبة( ).
أما بالنسبة للآية الثانية ، فلقد أحسن الشهيد سيد قطب – رحمه الله – حين قال في معرض تفسيره لهذه الآية : ” فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته ، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ ، إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن ، منهج الأهواء ، والانفعالات التي لا ضابط لها ، ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها ، ومن ثم يستثني القرآن الكريم من ذلك الوصف المؤمنين ، فهؤلاء آمنوا فامتلأت قلوبهم بعقيدة ، واستقامت حياتهم على المنهج ، وعملوا الصالحات ، فاتجهت طاقاتهم إلى العمل الخيّر الجميل ، ولم يكتفوا بالتصورات والأحلام ، وانتصروا من بعد ما ظلموا ، فكان لهم كفاح ينفثون فيه طاقاتهم ؛ ليصلوا إلى نصرة الحق الذي اعتنقوه “( ).
وخلاصة القول : إن القرآن الكريم في كلّ سورة من سوره ، بل في كلّ آية من آياته ، يعلمنا كيف ننهض بطباعنا ، وكيف نرتقي بملكاتنا البلاغية ، فيكون الكلام عندئذٍ – شعراً ونثراً – أحسن ديباجةً ، وأصفى رونقاً ، وأرصف مبنى ، وأعدل تثقيفاً ؛ لأنّ كلامه من الطبقة العالية( ).
وهو المعين الأول لمن يريد أن يصنع من ألفاظه ومعانيه ألفاظاً ومعانٍ غير ما يجري على ألسنة البشر .
موقف الرسول من الشعر :
لقد كرم الرسول الشعر بأنه قد استمع له في مسجده ما دام ذلك الشعر وسيلة من وسائل الخير ، وأسلوباً من أساليب البناء ، وكرم كذلك الشعراء ، وقد بلغ من تكريمه لهم : أن وضع لحسان بن ثابت منبراً في مسجده ، وطلب منه أن يفاخر المشركين ، وأن ينافح عن رسوله الأمين( )، وأيضاً ما فعله بكعب بن زهير حين أنشده معتذراً : (بانت سعاد) ، وذلك بإكسائه البردة التي اشتراها معاوية فيما بعد من آل كعب بن زهير بمالٍ كثير( ).
وهو بما أوتي من حكمةٍ وبيانٍ وبلاغةٍ وفصاحة ، حتى إذا نظرنا فيما صحّ نقله من كلامه على جهة الصناعتين اللغوية والبيانية ، رأيته في الأولى مسدد اللفظ ، محكم الوضع ، جزل التركيب ، متناسب الأجزاء في تأليف الكلمات ، فخم الجملة ، واضع الصلة بين اللفظ ومعناه ، ثم لا ترى فيه حرفاً مضطرباً ، ولا لفظة مستدعاة لغيرها أو مستكرهة عليه ، ورأيته في الثانية حسن المعرض ، بيّن الجملة ، واضح التفصيل ، جيد الرصف ، متمكن المعنى ، بديع الإشارة ، غريب اللمحة ، ناصع البيان ، لا ترى اضطراباً ، ولا خطلاً ، ولا استعانة من عجز ، ولا توسعاً في ضيق( ).
فهو لكلّ هذا فإنه لما كان قائلاً يقول لعلي بن أبي طالب : (( اهجُ عنا القوم الذي يهجوننا )) ، فقال : إن أذن لي رسول الله فعلت ، فقالوا : يا رسول الله ، ائذن له ، فقال رسول الله : (( إن علياً ليس عنده ما يراد في ذلك منه )) ، أو (( ليس في ذلك هنالك )) ، فهو يعلم أن الموهبة الشعرية عند الإمام علي غير الموهبة التي يتمتع بها كلّ من حسان وكعب وابن رواحة في التأثير على قريش ؛ لأنّه يدرك قيمة الشعر في الإنسانية ، فلم يكن يهمل الجانب الفني من خلال معاييره الخلقية .
وروى ابن عائشة قال : قال رسول الله : (( الشعر كلام من كلام العرب جزل ، تتكلم به في بواديها ، وتسلّ به الضغائن من بينها )) . وروي عنه أنه قال : (( لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين )) . فهو يشير إلى قيمة الشعر في النفوس العربية المسلمة أو غيرها ، وارتباطه الوثيق بحياتها( )، ولذلك أباح للشعراء نظم الشعر ، واستحسن منهم ذلك ، فكان يجالسهم ويُصغي إليهم ، ويستمع إلى ما ينشدونه من أشعارهم ، أو يروون من أشعار الجاهلية .
قال جابر بن سمرة : جالست النبي أكثر من مائة مرة ، فكان أصحابه يناشدونه الشعر ، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية ، وهو ساكت ، فربما تبسم معهم ؛ مما يدلّ على ارتياحه للشعر واستحسانه له( ).
ومن ذلك أيضاً : حديث النابغة الجعدي قال : أنشدت رسول الله من قولي :
بلغنا السّماء مَجْدُنا وجُدودنا
. وإنا لَنَرْجُو فَوْق ذلك مَظْهرا
.
فقال : (( أين الظهر يا أبا ليلى )) ؟. فقلت : الجنة يا رسول الله ، قال : (( أجل إن شاء الله )) ، ثم قال : أنشدني فأنشدته من قولي :
ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن له
ولا خيرَ في جَهْلٍ إذا لم يكن له
. بوادرُ تحمي صفْوَهُ أن يُكدَّرا
حَليمٌ إذا ما أَوْرَدَ الأمرَ أصدرا
.
فقال : ((.أَجَدْتَ لا يُفْضَضُ فُوكَ …… مَرَّتَيْنِ . – وَفِي رِوَايَةِ الصَّرِيفِينِيِّ ، عَنِ الْمُخَلِّصِ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا يُفْضَضُ فُوكَ …. مَرَّتَيْنِ .
قال الراوي : فنظرت إليه ، فكأنّ فاه البَرَدُ المنهلُّ ، ما سقطت له سنّ ولا انفلّت ترِفّ غروبه( ).
وعرف الشعراء ما للشعر من تأثير في نفس الرسول وقلبه ، فاتخذوا منه وسيلة يستشفعون بها عنده ، وكان يستجيب لهم ، فينصر مستنصرهم ، ويغيث مستغيثهم ، ويقبل من معتذرهم ، ويرق لمتألمهم ، ثم إنّه من المهمّ جداً أن نشير إلى علمه بالشعر ، ومن ذلك ما روي أن سودة أنشدت :
* عـديُّ وتيـم تبتغـي من تحـالف *
فظنّت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عرّضت بها ، وجرى بينهنّ كلام في هذا المعنى ، فأُخبر النبي ، فدخل عليهنّ وقال : (( يا ويلكنّ ، ليس في عَدِيّكنّ ولا تَيمكنّ قيل هذا ، وإنما قيل في عديّ تميمٍ وتيم تميم )) .
وتمام هذا الشعر – وهو لقيس بن مَعْدان الكُلبي – :
فحالفْ ، ولا والله تهبطُ تلعةً
ألا من رأى العَبْدَين ، أو ذُكرا له ؟
. من الأرضِ إلا أنتَ للذلِّ عارِف
عَدِيّ وتَيمٌ تبتغي من تحالِف( )
.
ولا أشهر من علم رسول الله بالشعر إلا قوله :
أنا النبيُّ لا كذب
. أنا ابن عبد المطلب
.
وفي هذا دليلٌ واضح على أنه لم ينكر الشعر ولم يذمه أو ينتقص من شأنه أبداً ، بل على العكس ، وكما اتّضح فيما سبق .المبحث الأول : أغراض الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء :
لقد كان للإسلام وقعٌ خاصّ في نفوس أتباعه ، فتعلّقوا به أيّ تعلق ؛ إذ هذّب الكثير من طباعهم ، وارتقى بنفوسهم ، ونفض عنهم أكدار الجاهلية . وتمشياً مع ذلك فقد التزم الشعراء بدعوة الإسلام ومبادئه وأخلاقه ، فطرحوا ما لا يتناسب وتلك الحياة من الأغراض التي ألفوها في حياتهم الجاهلية ؛ لأنّها لم تعد تتفق وسُموّ الإسلام وطهارته وصفائه ، ومن تلك الأغراض التي ابتعدوا عنها : الغزل المتهتك ، الخمريات ، والهجاء المقذع الفاحش ، فاستحدثت حياتهم الجديدة أغراضاً جديدة ، واستمرّ الشعر يسيل على ألسنتهم ويصوّر حياتهم ، ويستوعب همومهم ، ويعبر عما يجيش في صدورهم ، حتى إنه لم يبق أحد من أصحاب رسول الله إلا وقال الشعر وتمثل به .
ولعلّ من أبرز هذه الأغراض :
1) الشعر الديني :
كان الشعر الديني أبرز الأغراض ، حيث بدأ الشعراء يتحدثون عن عقائد الدين ، كالوحدانية ، والوحي ، والنبوة ، والبعث .. وكذلك عن مثله العليا ، ويدعون إلى التمسك بها ، وعن الخُلق والحياء ، ومن ذلك قول حسان بن ثابت :
شهدتُ بإذن الله أنّ محمداً
وأنّ أبا يحيى ويحيى كليهما
. رسولُ الذي فوق السموات من علِ
له عملٌ في دينه متقبلُ( )
.
وهاهو خبيب الأنصاري يتغنى بالشعر وهو مصلوب على خشبة الموت في طريقه إلى الخلود ، مفضلاً الموت على الكفر ، فيقول :
وقد خيّروني الكفرَ والموت دونه
وما بي حذار الموت إني لميت
. وقد هملت عيناي من غير مجزع
ولكن حذاري حجم نار ملفع( )
.
أما الطفيل بن عمرو الدوسي فلم يكتفِ بإدراك وحدانية الله ، بل تحدى قريشاً ، فوجه لها خطاباً ضمنه عبارات الإيمان بتلك الحقيقة الأزلية ، فالله فرد تعلو جلالته وعظمته عن كلّ ندّ ، فيقول :
بأن الله ربّ الناس فرد
وأن محمداً عبدٌ رسولُ
. تعالى جدّه عن كلّ ندِّ
دليلُ هدى ومُوضح كلّ رشدِ
.
2) الوعظ والإرشاد :
احتاجت أوامر الدين ونواهيه إلى الحثّ على الالتزام بها وتنفيذها ، نشأ لون جديد من الشعر هو شعر الوعظ والإرشاد ، وقد حاول شعراء صدر الإسلام الإفادة من فنهم الشعري لتحقيق هذه الغاية النبيلة التي دعا إليها القرآن بمثل قوله تعالى :
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }( )، ومن ذلك قول كعب بن زهير في دعوة مخلصة وموعظة حسنة لقومه :
رحلتُ إلى قومي لأدعوَ جلهم
سأدعوهم جهدي إلى البرّ والتقى
فكونوا جميعاً ما استطعتم فإنه
. إلى أمرِ حزمٍ أحكمته الجوامعُ
وأمر العلا ما شايعتني الأصابع
سيلبسكم ثوباً من الله واسعُ( )
.
ونجد عمير بن الحمام يدعو إلى تقوى الله وأنها كل ما يملكه المرء في لقاء ربه :
ركضاً إلى الله بغيرِ زادِ
إلا التقى وعملِ المعادِ
والصبر في الله على الجهادِ
وكلّ زاد عرضة النفادِ
غير التقى والبرّ والرشادِ( )
ج
وعندما نتلو الآية الكريمة : { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا }( )، إنما هي آية مُهذّبة ومُرشدة ، ويردّد هذه الآية ببيتين لعثمان بن أبي العاص :
غنى النفس يُغني النفسَ حتى يكفّها
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتَها
. وإن مسّها حتى يضرَّ بها الفقرُ
بكائنةٍ إلا سيتبعها يسرُ( )
.
3) الزهـــد :
لقد كبر في نفوس المسلمين حبّ الدين والعمل للآخرة ، وفي المقابل ضعف الانكباب على شهوات الدنيا الزائلة ، وهذا لا يعني الدعوة إلى الرهبنة والانقطاع عن الدنيا ، إنما هو مبدأ من مبادئ الإسلام ، وهو الزهد بلا إفراطٍ ولا تفريط .
فقد كان عثمان بن عفان كثيراً ما ينشد أبياتاً قالها ويطيل ذكرها لا تُعرف لغيره :
تفنى اللذائذُ مما نال صفوتها
يلقى عواقبَ سوءٍ من مغبّتها
. من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
لا خير في لذةٍ من بعدها نارُ( )
.
ومن عرف بشعر الزهد عروة بن زيد الخيل ، وأبو الأسود الدؤلي ، وهذا الأخير له بيتان يشرح فيهما أن الزهد ليس هو الانقطاع عن العمل والكسب ، بل بالسعي في مناكب الحياة ، شرط عدم الانكباب والركون إليها .
ولا تقعد على كسل التمني
فإن مقادر الرحمن تجري
. تحيلُ على المقادر والقضاءِ
بأرزاقِ الرجالِ من السماءِ( )
.
ولا أدلّ على هذا من البيتين للحطيئة مشهورين ، يوضّح فيهما أن السعادة ليست في المال ؛ إنما هي في التقوى :
ولستُ أرى السعادة جمعُ مالٍ
وتقوى اللهِ خيرُ الزادِ ذخراً
. ولكنّ التقيّ هو السعيدُ
وعند الله للأتقى مزيدُ( )
.
4) شـعر الفتوحـات :
وهذا الشعر هو نشيد معركة وهتاف شهادة ، تردّده ألسنة المؤمنين الذين وجلت قلوبهم ، وصَفَت نفوسهم . ولقد أدّى هذا الشعر دوره في ميدان الجهاد لاستنهاض الهمم وإلهاب مشاعر الحماس ، والاندفاع في نفوس المجاهدين ، فصوّر مشاعر المجاهدين وأحاسيسهم بعد أن نذروا أنفسهم جنوداً في مواكب الإسلام .
ولعلّ أول هؤلاء الشعراء وأكثرهم شعراً وأعلاهم شأناً في الفتوحات : القائد الصحابي الجليل خالد بن الوليد ، حيث بلغ ما قاله من شعر حوالي عشر مقطوعات ، كلّها قيلت في الفتوحات الإسلامية .
ففي لقائه مع جيش مسيلمة الكذاب كان يبارز الرجال وهو يرتجز( ):
أنا ابن أشياخ وسيفي السخت
أعظم شيء حين يأتيك النّفت( )
.
وبعد انتهاء المعارك مع الروم ، ووضعت الحرب أوزارها في بلاد الشام ، يتحدث معلناً عن نهايتها قائلاً :
وإنّا لقومٌ لا يكلّ سيوفنا
سيوفٌ ذخرناها لقتلِ عدوِّنا
. عن الضرب في أعناقِ روق الكتائبِ
وإعزاز دين الله من كُلِّ خائبِ( )
.
وممن برز في هذا الشعر أيضاً : المقداد بن الأسود ، فلقد خاض عدّة معارك ، فيقول قبل البدء في إحدى المعارك :
وسيفي في الوغى أبداً صقيلُ
فيا ويل العِدا والروم منّا
. طليق الحدِّ في أهلِ الضّلالِ
إذا التحمَ الفوارِسُ في القتالِ( )
.
وممن برز أيضاً في شعر الفتوحات :
عروة بن زيد الخيل ، والنابغة الجعدي ، وغيرهم .. ويمثل هذا كذلك أبناء الشاعرة الخنساء في معركة القادسية( )، وكعب بن مالك في يوم الخندق ، يقول :
يذودوننا عن ديننا ونذودهم
إذا غايضونا في مقامٍ أعاننا
. عن الكفرِ والرحمنُ راءٍ وسامع
على غيضم نصرٌ من الله واسع
.
5) شـعر الشكوى :
لما استغلّ بعض الولاة في ظلّ النظام الجديد مناصبهم ، وخرجوا على قاعدة الأمانة والنّزاهة ، لم يسكت الشعراء على تصرّفاتهم ، بل كانوا يغرون الخلفاء ويسألونهم أن يجردوا هؤلاء من أموالهم .
قال يزيد بن الصعق موجهاً شعره إلى الخليفة عمر :
أبلغ أمير المؤمنين رسالة
فلا تدعنَّ أهل الرساتيق والقرى
. فأنت أمين الله في النهي والأمر
يسيغون مالَ الله في الأدم الوفَرِ( )
.
ورفع الشاعر عبد الله بن همام السلولي شكواه إلى عبد الله بن الزبير من عماله الذين خانوا الأمانة وظلموا الرعية :
يا ابن الزبير ، أمير المؤمنين ألم
باعوا التجار طعام الأرض واقتسموا
اشدد يديك بزيدٍ إن ظفرت به
. يبلغك ما فعل العمّالُ بالعملِ
صلب الخراجِ شحاحاً قسمة النفلِ
واشفِ الأرامل من دحروجة الجعل( )
.
6) الفخر والحماسة :
كانت أشعار الفخر والحماسة في صدر الإسلام أكثر الأغراض الشعرية صلةً بالإسلام ؛ لِما للجهاد من مكانة في الحياة الإسلامية الجديدة ؛ إذ كان معظم الشعراء من الأبطال المحاربين ، شاركوا في المعارك بسيوفهم وأشعارهم ، ولم يعد الشاعر يفخر بإعلاء كلمة القبيلة أو رفع شأنها ، ولا بكسب المغنم ، بل صار يفخر بنيل الشهادة وبتأييد الملائكة لجند الله ، وبانتصار المؤمنين الصادقين .
ولعلّ أبرز الشعراء في هذا : حسّان ، فيقول مفتخراً :
الله أكرمنا بنصر نبيه
وبنا أعزّ نبيه ووليه
. وبنا أقام دعائمَ الإسلامِ
وأعزّنا بالنصرِ والإقدامِ( )
.
وقوله :
وجبريلُ أمينُ الله فينا
. وروح القدس ليس له كفاء( )
.
وتُعدّ قصيدة النعمان بن عجلان سجلاً كاملاً لمفاخر الأنصار التي خدموا بها الإسلام ، ومنها :
نصرنا وآوينا النبي ولم نخف
وقلنا لقومٍ هاجروا : مرحباً بكم
. صروفَ الليالي والعظيم من الأمرِ
وأهلاً وسهلاً ، قد أمنتم من الفقرِ( )
.
ويرتجز عامر بن سنان وهو خارج إلى خيبر مع رسول الله ، مشيراً إلى إقامة المناسك :
بالله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدّقنا ولا صلينا( )
.
وأظهر من هذا في الفخر قول علي بن أبي طالب :
أنا ابن الذي قد تعلموا ما مكانه
أليس رسول الله جدي ووالدي
. وليس على الحقّ المبين صماءُ
أنا البدرُ إن حلَّ النجوم خفاء( )
.
وهناك شواهد لذلك كثيرة عند كعب بن مالك ، وعبد الله بن رواحة ، وأعشى قيس ، والعباس بن مرداس ، وغيرهم .. لا يتسع المقام لهم .
7) الرثــــاء :
وهو أبرز غرض من أغراض الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء ؛ لِما له من صدى لدى السامع وما يكتنفه من عاطفة صادقة تصدر عن قلب موجوع على فراق أهله وإخوانه وأحبابه ، خاصة من قتل شهيداً في ميدان الجهاد ، وهذا من أغزر العواطف وأصدقها ، وقد سلك الشعراء في ذلك ثلاث طرق : الندب ، والتأبين ، والعزاء( ).
ولعلّ أول رثاء يُلتفت إليه ويُعطى حقه من الاهتمام والعناية هو رثاء أبي بكر الصدّيق للنبي .
وإن لم يكن الصدّيقُ راثياً لصديقه وصفيِّه وخليلهِ وحبيبه ، فمن أولى الناس بذلك ؟ إن هذا يجسد العلاقة العظيمة التي كانت تربطه بالنبي :
لما رأيت نبينا متجدلاً
وارتعت روعة مستهامٍ والهٍ
أعتيقُ ويحك إن حبك قد ثوى
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي
فلتحدثنّ بدائع من بعده
. ضاقت عليَّ بعرضهنّ الدورُ
والعظمُ منّي واهنٌ مكسورُ
وبقيتُ منفرداً وأنت حسيرُ
غيبت في جدثٍ عليّ صخورُ
تحيا بهنّ جوانحٌ وصدورُ( )
.
ولعلّ من لطيف القول أن نستأنس أيضاً بقوله لما عاد النبي وهو مريض ، فشفي الرسول ، ثم مرض أبو بكر ، فعاده الرسول ، فشفي حين عاده :
مرض الحبيب فعدته
شفي الحبيب فعادني
. فمرضت من حذري عليه
فشفيت من نظري إليه( )
.
ولما مات أبو بكر رثاه عمر بقوله :
ذهب الذين أحبّهم
إني رضيع وصالهم
. فعليكِ يا دنيا السلامْ
والطفل يؤلمه الفطامْ
.
ويستشهد عليّ فينهض الشعراء يؤنبونه كما يقول أبو الأسود الدؤلي :
أفي شهر الصيام مجتمعونا
فكلّ مناقب الخيرات فيه
. بخير الناس طراً أجمعينا
وحبّ رسول ربّ العالمينا( )
.
ومن الأغراض أيضاً :
الشعر السياسي ، والمديح ، والهجاء ، والغزل العفيف ، وهذا كله فيما يتفق وسموّ الإسلام ودعوته إلى الفضائل ومكارم الأخلاق ، كيف لا ، وكلّ من يتمثّل له إنما هم من صحابة رسول الله ؟.
أما ما استحدث من أغراضٍ جديدةٍ في هذين العهدين ، فأهمها :
1- الحنـين :
فالإحساس بالغربة داخل مكة ، ثم الهجرتين إلى الحبشة والمدينة ، والابتعاد
عن الأهل .. كلّ هذه الطبيعة كانت سبباً في بثّ روح الحنين إلى الأهل
والوطن .
فابن مكتوم – مثلاً – لا يخفي مشاعر الحنين إلى مكة وهو يمسك بزمام ناقة رسول الله وقت الهجرة ، فيذكر وطنه مكة ، ويحنّ إليها .. وكيف لا يحنّ وقد خلف فيها الأهل والأصحاب ؟!.
يا حبذا مكة من وادي
أرضٌ بها ترسخ أوتادي
. أرضٌ بها أهلي وعوّادي
أرض بها أمشي بلا هوادي( )
.
وبلال الحبشي الذي هاجر مع النبي حين يحسّ بالغربة يهزّه الشوق إلى مكة ، فيتمنى أن يبيت ليلة فيها ..
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
وهل أرِدَن يوماً مياه مجنّةٍ
. بفخ وحولي أَذْخِرٌ وجليلُ
وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ( )
.
وهناك شوارد في هذا الشأن أيضاً لخبيب بن عدي ، وورد بن الورد الكعبي المجاهد الشاعر ، وللصحابي الجليل أبي أحمد جحش ، وغيرهم ..
2- الوصـف :
لقد أظهر هذا اللون طبيعة الانتقال ورؤية أشياء لم تكن مألوفة ، كالقصور ، والمدن ، وغيرها ..ومن ذلك ما جاء على لسان أبي نجيد نافع بن أسود ، الذي كان له شرف المشاركة في معارك نهاوند والري .
فقد أدهشته الريّ بجوها وعيشها ، فوصفها .. ووصف ريفها ، قائلاً :
دعانا إلى جُرجان والريّ دونها
رضينا بريف الريّ والريّ بلدة
لها نشرٌ في كلّ آخرِ ليلةٍ
. سوادٌ فأرضتْ من بها من عشائر
لها زينة في عيشها المتواتر
تذكّر أعراس الملوك الأكابر( )
.
ومثل ما وصف أبو نجيد الريّ وريفها ، فقد وصف القعقاع بن عمرو الحيرة ، ووقف عند قصورها ، فقال :
ويوم أَحَطْنا بالقُصورِ تتابعتْ
. على الحيرةِ الرَّوْحاءِ إحدى المصارِفِ
.
وسعد بن أبي وقاص الذي عانى من الفيلة جراء ما فعلته يوم القادسية ، فإنه يحثّ المسلمين على الثبات ؛ لأنّ هذه الفيلة بضخامتها وارتفاعها إلا كالإبل الجرباء ، وفي ذلك يقول :
وما أرجو بجيلة غير أنِّي
فقد لقيتُ خيولهم خيولاً
وقد دَلفتْ بعرصتهم خيولٌ
. أؤمِّلُ أجرهم يوم الحسابِ
وقد وقع الفوارسُ في ضرابِ
كأنّ زُهاءَها إبلٌ جِرابُ( )
.المبحث الثاني :الخصائص الفنية للخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء :
أولاً : الابتعاد عن المقدمات الطّلليّة :
لقد تحرر معظم الشعراء في هذا العصر من الالتزام بكثير من تقاليد الجاهليين في أشعارهم ، كمخاطبة الاثنين ، ووصف الناقة أو الجمل ، والمقدمات الغزلية التقليدية ، ولعلّ ما يصوّر هذا قول ابن رشيق : ” ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطاً من النسيب ، بل يهجم على ما يريده مكافحة ، ويتناوله مصافحة ، وذلك عندهم هو الوثب ، والبتر والقطع ، والكسع والاقتضاب “( ).
ولو فتشنا عن سبب لهذا التحرر لوجدنا أن معظمه يكمن في تحول تلك الشخصية المسلمة ؛ إذ انشغالها بالفرائض والجهاد والدفاع عن حياض الدين ، هذا الجوّ الخاص الذي عاشته فرضَ عليها التخلّص من تلك التقاليد الجاهلية التي تتطلب تأنٍّ واستقرار بأيّ حالٍ من الأحوال ، ثم إن الموضوعات التي طُرقت كانت تتطلّب منهم حذراً شديداً ؛ لأنّهم لا عهد لهم بها من قبل .
ولكن مع هذا لا يعني أنهم لم يفتتحوا بعض قصائدهم بمقدمات طللية أو غزلية ، فقد اتبع قسم منهم مثل هذا التمهيد ، ولكنه لم يتوقف عنده طويلاً ، فابتدأ كعب بن مالك مثلاً قصيدته النونية في أحد بصيغة محاورة افتعلها مع امرأة ليتخذ من ذلك الحوار جسراً فكرياً يصل من خلاله إلى ذكر محاسن قومه وسجاياهم :
إنك عمر أبيك الكريـ
فإن تسألي ثم لا تُكذبي
بأنا ليالي ذاتِ العظا
. ـم إن تسألي عنكِ من يجتدينا
يخبِّرك مَن قد سألت اليقينا
م كنا ثملاً لمن يعترينا( )
.
أو بشكلٍ سريع كما فعل أبو نجيد فقال :
وبالرِّيِّ إن قالتْ بنا أمّ جعفرٍ
. أقمنا صدورَ الخيلِ والخيلُ تنفرُ( )
.
ولئن كان هناك استغناء عن تلك المقدمات فإن روح العصر الذي هم فيه من جدلٍ وحجاج فرض عليهم مقدمات أخرى ، فكثيراً ما جاءت قصائدهم مستفتحة بقولهم : وسائل ، وسائلة ، وأبلغ ، وأبلغنا ، وبلغنا …
ومن ذلك : استهلال حسان هجاءه لأبي سفيان بن الحارث بقوله :
أبلغْ أبا سفيان أنّ محمداً
. هو الغصنُ ذو الأفنانِ لا الواحدَ الوغدُ( )
.
وأبو الأسود الدؤلي الذي يقول :
ألا أبلغ معاويةَ بن حربٍ
. فلا قَرَّت عيونُ الشامتينا
.
وواضح هذا أيضاً عند كعب بن مالك والوليد بن عقبة وغيرهم .
ثانياً : الصدق والالتزام :
لا شكّ أن هاتين الصفتين من نتاج عصرهم ؛ إذ نُقلت تجاربهم الحية وواقعهم إلى الشعر صادقه ومؤثّره وجميله في ذات الوقت ، ويظهر هذا جلياً في أنواع القسم والدعاء والقصص التي قد يستعين بها الشعراء في تعبيرهم .
ومن هذا قول عمرو بن الجموح الأنصاري :
أتوب إلى الله سبحانه
وأثني عليه بآلائه
. وأستغفرُ الله من ناره
بإعلان قلبي وأسراره( )
.
وقول النعمان بن بشير الأنصاري :
ربِّ إني ظلمتُ نفسي كثيراً
. فاعفُ عني أنت الغفورُ الودودُ
.
ج
وقني شرّ ما أخافُ فإنّي
من خطوبٍ إذا ذكرتَ ذنوبي
. مُشفقٌ خائفٌ لما تستعيد
وقرأتُ القرآنَ فيه الوعيدُ( )
.
وقبل هذا أذكر قسم أيمن بن خزيم بما أنزل الله في ليلة القدر ، وقسم كعب بن معدان الأشقري بربّ المناسك ، ومقام إبراهيم ، فيقول :
إني وربّ منىً وما جمعت
ومقام إبراهيم يمسحه
. يوم الحجيج وأشهرٍ حرمِ
من كلّ أشعثٍ ناحلِ الجسمِ( )
.
ولعلّ أبرز ما يدلّ على حرص الشاعر العربي المسلم على تسجيل كلّ ما مرّ به في حياته من أحداث مستمدة من واقعه نتيجة لالتصاقه به ، هو تشكيل مادة طيبة للفن القصصي وما يتطلب هذا من الإثارة وتسلسل الأحداث ، ثم وضع نهاية لذلك .
فقد تحدث عبد الله بن رواحة عن استشهاد حمزة ، مبيناً جلل المصاب وفداحته ، مبتدئاً بصيغة الحوار الذي باشر به القصيدة ، وكأنه لا يتوقع أن يكون حمزة هو القتيل ، فقال :
بكَت عيني وحُقّ لها بُكاها
على أسدِ الإله غداة قالوا
أصيب المسلمون به جميعاً
أبا يعلى لك الأركان هُدت
. وما يُغني البكاءُ ولا العويلُ
أحمزةُ ذاكم الرجلُ القتيلُ
هناك وقد أصيب به الرسولُ
وأنت الماجد البرُّ الوصولُ( )
.
ولعلّ الاقتباس كان دالاً أيضاً على التزاحم خاصة في سرد القصص ، ومن ذلك : حديث النعمان بن بشير عن قصة يونس باختصارٍ شديد :
وابن متّى الذي تداركه اللهُ
فدعاهُ دعوة وقد غيّبته
. من الغمِّ وهو فيه عميدُ
ظلمٌ دونها حنادس سودُ( )
.
ومما يدلّ على التزامهم : ابتعادهم في هجائهم عن المعاني التي تثير الضغائن والأحقاد أو تمسّ الأعراض ، والإسلام له موقفه من العصبية القبلية ، أو الثأر ، أو الغزل الفاحش ، وشعر الخمر والمجون ..
وهو لما خالط بشاشة قلوبهم ظهر هذا جلياً في التزامهم بآدابه في شعرهم ، وقد صرّح حسان بن ثابت بمقدرته على الهجاء ، ولكن الذي يمنعه هو الإسلام والرسول – عليه الصّلاة والسلام – ؛ إذ يقول لعمرو بن العاص :
لولا النبي وقول الحقّ مغضبة
. لما تركتُ لكم أنثى ولا ذكرا( )
.
ومن ذلك أيضاً في زمن عثمان قول الشماخ للربيع بن علباء السلمي :
لولا ابن عفان والسلطان مرتقبٌ
. أوردتُ فجاً من اللعباءِ جلمودا( )
.
ولا أدلّ على ذلك من الحطيئة في زمن عمر لما حوّل وجهة نظره في موقفه من الزبرقان ، فيقول :
ولما أن مدحتُ القومَ قلتم
ألم أكُ مسلماً فيكون بيني
فلم أشتمْ لكم حسباً ولكن
. هجوتَ وما يحلُّ لك الهجاءُ
وبينكم المودّةُ والإخاءُ
حدوتُ بحيث يُستمع الحداءُ( )
.
ومن الفخر :قول عاصم بن عروة حين حرر خالد بن الوليد السواد مفتخراً بمجدهم وكرمهم المتحقق بفضل إسلامهم لا أحسن من ذلك :
ولم ترَ مثلنا كرماً ومجداً
لنأتي معشراً ألبوا علينا
. ولم ترَ مثلنا شنخاب هاد.
إلى الأنبارِ أنبار العباد( )
.
ثالثاً : الرّقــة :
” ولما كان الشعر عمدة الأدب وعلم العرب الذي اختصت به من سائر الأمم ، وبلسانهم جاء كتاب الله المنَزّل على النبي ، منهم الرسول – صلوات الله عليه وآله وسلم – كانت أشعار الإسلاميين أرقّ من أشعار الجاهليين “( ).
ليس أحد يشكِّك في قول الثعالبي – رحمه الله – ، فلقد تأثرت ألفاظ الشعراء بالإسلام أيما تأثر ، حتى إنها – ألفاظه – شاعت في شعرهم ، خذ مثلاً : الرسول ، الوحي ، الفردوس ، الضلال ، الفجور ، الزكاة ، السجود ، المجاهد ، وغيرها
فرقّت ألفاظهم برقة وسهولة وضوح ألفاظ القرآن الكريم . وما كلّ ما نلمحه في ألفاظهم من السلاسة والعذوبة إلا إنعكاسًا لِما في القرآن من تلك .
ويقول شوقي في أثر القرآن في لغة الشعراء : إنه هذب اللغة من الحوشية ومن اللفظ الغريب ، فأقامها على هذا الإسلام المعجز من البيان والبلاغة( ).
ومن ذلك قول القعقاع بن عمرو :
وجدنا المسلمين أعزّ نصراً
. وخيرُ الناسِ كلهم اقتدارا( )
.
وقول أصيد بن سلمة :
إن الذي سمك السماء بقدرةٍ
بعث الذي لا مثله فيما مضى
. حتى علا في ملكه فتوحّدا
يدعو لرحمته النبي محمدا( )
.
وقول حميد بن ثور :
ولكنما الدنيا غَرورٌ ولا ترى
فللهِ ما فوقَ السماءِ وتحتها
. لها لذةً إلا تَبيدُ وتُنْزَعُ
له المالُ يُعطي مَن يشاءُ ويمنعُ( )
.
ورغم التكرار الواضح في ألفاظهم ، والاقتباس البيّن في ثنايا أشعارهم ، إلا أن الرقة والسهولة سمة الشعر لديهم ، ولم تكن تلك الصفتان – التكرار والاقتباس – عائقة لنا لنستعذب شعرهم ونتلمّس مدى سلاسته وانبساطه .
ومن ذلك قول حسان بن ثبات في رثاء الرسول :
فبورِكتَ مولوداً وبوركتَ ناشئاً
وبورِكَ قبرٌ أنتَ فيه ، وبورِكَتْ
. وبورِكتَ عند الشيبِ إذ أنت أشيبُ
به وله أهلٌ لذلك يثربُ( )
.
وقول الفضل بن العباس يخاطب المشركين في فتوح الشام :
أقرّوا بأنّ الله لا ربّ غيره
أقرّوا بأن الله أرسل أحمداً
. وإلا تروا أمراً عظيماً مداجيا
نبيّاً كريماً للخلائقِ هاديا( )
.
وعن قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ }( ) يقول عبد الله بن رواحة :
شهدتُ بأنّ وعد الله حقّ
. وأن النار مثوى الكافرينا
.
أما عمار بن ياسر فيقول مقتبساً قوله تعالى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا }( ):
إنهم عند ربهم في جنانٍ
. يشربون الرحيقَ والسلسبيلا
.
ج
من شراب الأبرارِ خالطه الـ
. ـمسك وكأساً مزاجُها زنجبيلا( )
.
ولئن كانت الرقة والوضوح والسهولة عامّة في ألفاظهم ، فإنّ معانيهم أيضاً كانت سهلة وواضحة ، فقد كانت تدور حول فكرة الإقرار بوحدانية الله ، وفكرة البعث والنشور ، وصور الجنان ، والدعوة إلى الخير ، والابتعاد عن الشر ، وقد يستعينوا ببعض المعاني القديمة التي ورثوها عن عصرهم السابق ، كالشجاعة ، والنجدة ، والثبات ، والمروءة ، والكرم ، وغيرها من المعاني …الصور والأخيلة في الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء :
لا شكّ أن الخيال يشكّل جانباً مهماً من الشعر في شتى مراحله وعصوره ؛ لكونه من الوسائل الفنية التي يعتمد الشعراء في التعبير عن أفكارهم وما تختلجه نفوسهم من مشاعر لتقريب المعاني وزيادة توضيحها للتأثير في السامع ، إلا أنّ هذه الصور كانت – بلا شكّ – منتزعة من واقع حياتهم وبيئتهم ، فضلاً عن مظاهر الطبيعة أمامهم بنورها وظلالها وسحابها ومطرها ورعودها وبروقها … إلى آخر تلك المظاهر .
ومما ساعد على ثراء هذه الصور أيضاً ، ما جاء في القرآن الكريم .
ومما ورد من هذه الصور – مثلاً – نجد أن الرسول هو نورٌ عند حسان :
وأرسله في الناسِ نوراً ورحمةً
. فمن يرضَ ما يأتي من الأمر يهتد
.
وكذلك الرسالة والقرآن الكريم عنده :
فلما أتانا رسولُ الإله
يتلو علينا النور فيها محكما
. بالنورِ والدينِ بعد الظلم
قسماً لعمرك ليس كالأقسام( )
.
والمسلمون نجومٌ في شعر كعب :
أولاك نجومٌ لا يغبّك منهم
. عليك بنحسٍ في دجى الليل طالعُ( )
.
وهم أيضاً نمور عند أبي نجيد :
غداة لقيناهم بمروٍ تخالهم
. نُموراً على تلك الجبال وبارا( )
.
وفي المقابل شبه كعب المشركين بالجهام الذي أفرغ الريح ماءه فتلاشى :
وراحوا سراعاً موجفين كأنَّهم
. جهامٌ هراقت ماءهُ الرّيح مقلع
.
وتشبيه القعقاع لخيول الفرس بالبيوت :
خيولاً أراها كالبيوت حقيرة
. أسمل أعياناً لها ومآقيا( )
.
ومن تأثرهم بصور القرآن الكريم ، قول معن بن أوس :
فما زلت في ليني له وتعطّفي
وخفض له مني الجناح تألّفاً
. عليه كما تحنو على الولد الأمُّ
لتدنيه مني القرابة والرحم( )
.
فهو متأثر إلى حدّ بعيد بالصورة القرآنية التي وردت في قوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }( ).
ولعلّنا نتذكر أيضاً من أهمّ ما يتميّز به الخطاب الشعري في ذلك العهدين : ميل الشعراء واتجاههم إلى نظم المقطوعات ، وهذا يعود لكونها أكثر مناسبة للحفظ ، وأسرع في التأثير ، وقد بين ذلك ابن الزبعري حينما سُئل عن سبب تقصير أشعاره ، فقال :
” إن القصار أولج في المسامع ، وأجول في المحافل ” . يؤكّد ذلك ما ذكره أبو عمرو بن العلاء عندما سئل عن العرب ، وهل كانت تطيل ؟ فقال : ” نعم ؛ ليسمع منها ، قيل : فهل كانت توجز ؟ قال : نعم ؛ ليحفظ عنها ” . غير أنّ غلبة المقطوعات في شعرهم لا يعني عدم وجود قصائد طويلة لبعض شعرائها ، فلحسّان بن ثابت ، وكعب بن مالك قصائد من هذا النمط .الخاتمة
وبعد :
فلئن لم يكن الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء سالماً من العيوب والاعوجاج في الوزن والقافية ، وشعر متباين لا وحدة فيه توحّده ، ولا منشأ يجمعه ، كونه يعكس لنا أخلاقيات وسلوك عدد من الرجال ؛ فليس معنى هذا أن يُلغى من تاريخ الأمة ، كما يفعل بعض أعدائها ، وهم منها – وللأسف – ممن تغرّبوا وتمدّنوا .. ولكن أيّ حضارة تُقام ونحن ننكر ملامح مشرقة من تاريخنا وبعضاً من وثائقه وننسلخ منها ، ليس لشيء ، إلا لأنّها موغلة في القدم عند البعض ، وضعيفة عند آخرين ، أو هي ليست مما يُتشرّف بها ، متناسين أنّ أولئك الذين يتبرَّؤون منهم ويتهمونهم هم أصحاب رسول الله ، وأنّ أولئك هم من أعطى للشعر قيمة جديدة بعفويته وصدقه ورقّته ، وإلا فما الشعر إن لم يكن مؤثِّراً يصدر عن عاطفةٍ صادقةٍ ونفسٍ فطرية سليمة لا تعرف التقعّر والتشدّق والغرابة ..
ورحم الله مهدي الجواهري حين قال :
وأريد شعراً ليس في أبياته
الشعر في تأثيره والغيث في
. غير القلوب تبين للأحداق
آثاره والشمس في الإشراقِ( )
.
هذا ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على بيان الحقّ والدفاع عن دينه وعمّن حمله من صحابة رسول الله .
وأرجو أن أكون قد وُفّقتُ في بيان مظاهر الخطاب الشعري في ذلك العهدين ..//عواطف صالح سالم
22 / رمضان / 1423هــ _______________________________________
أهم المصادر والمراجع :
1- إعجاز القرآن ، مصطفى صادق الرافعي ، دار الكتاب العربي ، د.ت .
2- الإسلام والشعر ، سامي مكي العاني ، سلسلة كتب ثقافية شهرية
يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ،
1403هـ – 1983م .
3- دراسات في أدب الدعوة الإسلامية ، محمود زيني ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، د.ت .
4- دلائل الإعجاز ، عبد القاهر الجرجاني ، تحقيق : محمود شاكر ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ط3 ، 1413هـ – 1992م .
5- الجواهري صناعة الشعر العربي في القرن العشرين ، زاهد محمد زهدي ، دار القلم ، بيروت ، ط1 ، 1420هـ – 1999م .
6- الشعر والشعراء في الكتاب والسنة ، يوسف العظم ، دار الفرقان ، ط1 ، 1403هـ – 1983م .
7- شعر الخلفاء في العصرين : الراشدي والأموي ، نبال تيسير خماش .
8- شعر الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ، عبد الله حامد الحامد ، مطبوعات الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية ، د.ت .
9- شعر العقيدة في عصر صدر الإسلام ، أيهم عباس القيسي ، مكتبة النهضة العربية ، ط1 ، 1406هـ – 1986م .
10- شعراء صدر الإسلام وتمثلهم القيم الاجتماعية ، وفاء فهمي السنديوني ، دار العلوم ، 1403هـ – 1983م .
11- العمدة ، ابن رشيق القيرواني ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، ط4 ، بيروت ، 1972م .
12- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، محمد فؤاد عبد الباقي ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، ط2 ، 1411هـ – 1991م .
الفهرس :
المقدمة
التمهيد
موقف القرآن الكريم من الشعر
موقف الرسول من الشعر
المبحث الأول : أغراض الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء
1) الشعر الديني
2) الوعظ والإرشاد
3) الزهد . . 10
4) شعر الفتوحات
5) شعر الشكوى
6) الفخر والحماسة
7) الرثاء
8) الحنين
9) الوصف
المبحث الثاني : الخصائص الفنية للخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء
أولاً : الابتعاد عن المقدمات الطّلليّة
ثانياً : الصدق والالتزام
ثالثاً : الرّقة
الصور والأخيلة في الخطاب الشعري في عهد النبوة والخلفاء
الخاتمة
المصادر والمراجع
الفهرس