عبدالرحمن ريماوي 27 ماي، 2020ابحاث ادبيةالتعليقات على د. فطنة بنضالي وقصيدة أوراق قديمة للشاعر آل هليس مغلقة539 Views
إن من يقرأ ديوان “آخر المنازل” للشاعر الفلسطيني وليد آل هليس ليقف فعلا على تجربة شعرية عميقة اكتملت معالمها، تشي بفنية رائعة بصورها ومعانيها وقضاياها وقوة عاطفتها، هي تجربة مستقاة من واقع الشاعر من جهة، وواقع فلسطين والفلسطينيين من جهة ثانية. فهي تنم عن لواعج الروح، وتصور حياة الغربة والحنين والاشتياق، في لغة شعرية تنتظم إيقاعاتها، فتكشف موقف الشاعر النفسي الوجداني وعالمه الرمزي انطلاقا من خصوصية أسلوبه ولغته. وسنتناول هنا قصيدته أوراق قديمة من نفس الديوان وهي القصيدة الرابعة من حيث الترتيب .
يصور الشاعر وليد آل هليس غربته وحنينه إلى مسقط رأسه ووطنه ، كما هو شأن أي شاعر يعاني البعد ، فهو يحن دائما إلى وطنه ويتحسر على ما يجري فيه من مصائب وضيم ونكبات ، إذ تدل الغربة على معنيين : الأول الغربة المكانية الاجتماعية، والثاني الغربة الرمزية . والتعبير عن الغربة في الشعر قديم ملازم للشعراء عبر العصور في حلهم و ترحالهم ، فقد عبروا في غربتهم عن شوقهم وحنينهم إلى أوطانهم وذكروا وتذكروا أيام الحب والخير والصفاء . والشاعر وليد آل هليس في قصيدته يتذكر المنازل الأولى منازل الصفاء والاستقرار الطفولي البريء ، يقول :
لقد أخذتم كل شئ منا؛
الأرض والسنبلة وملح البحر.
وحتى خيط الشمس الذي اعتدنا أن نربط به
طياراتنا الورقية عندما كنا صغارا.
والآن لا نجد خيطانا
لطيارات أطفالنا.
إنه الواقع المرفوض الذي يعيشه الطفل الفلسطيني، بعد أن سُلب براءة طفولته، بحرمانه الاستقرار و”اللعب” الذي هو حق لكل طفل أيا كان. هكذا يؤكد الشاعر على السلب والقهر في أوراق قديمة ،معبرا بالأخذ الذي لا يكون إلا بالقوة والغلبة ، كما أن استعمال “كل” هنا دال على التعميم والاستغراق ؛ الأرض وغلاتها وثمارها، والبحر وخيراته ، وبهذا يتنامى لدى الشاعر الإحساس والشعور بالقهر والغصب، فيقول:
فلم يبق لنا غير قلوبنا التي تعبت من الهوى و أتعبتنا ؛
قلوبنا التي تخفق عادة،
أكثر مما ينبغي ،
لكل عصفة تهب من حقول تذكاراتنا القديمة،
ولكل طيف زائر من المنازل الأولى.
إذا كان عدم التحكم والسيطرة في الظروف الخارجية أقوى كما أشار إليه الشاعر في (أخذتم …منا) فإن إحساسات الحب و الاشتياق والحنين التي عبر عنها ب( قلوبنا التي تخفق عادة، أكثر مما ينبغي ) هي كذلك خارجة عن التحكم فيها، وفي الذكريات التي تربط الشاعر بالأرض والوطن، إن الفعل المضارع يدل على الحاضر ويسري على المستقبل في قوله (لم يبق لنا ) نتيجة عن الفعل الماضي (أخذتم منا) إشارة من شاعرنا إلى مسار القضية الفلسطينية وعمقها في الزمن، ناهيك عن دلالة الخيط المنسوب إلى الشمس، للدلالة على وأد الأمل، حيث ترمز ( الخيطان) إلى الربط والتحكم في الأمور ومسارها، فخيط الشمس يحيل إلى الآية الكريمة : (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) البقرة ِ 187. فالخيط هنا حد فاصل بين الليل والنهار تترتب عليه أحكام شرعية ، هكذا، يعبر الشاعر عن جدله النفسي بين واقعه المعيش، وواقع عالمه الإبداعي الرمزي مؤمنا بقضيته ، خالقا عالما فنيا لمعانيه، وتداعياتها في صوره الفنية الإبداعية ، بزيارة الطيف والتذكر، فالذكريات جزء من تاريخ شاعرنا تسكنه…إنها ذكريات تربطه بالمكان بأرض فلسطين وبالطفولة . فإذا كانت الأسطر الأولى في القصيدة تصور ما كان في الماضي والموالية تصور الحاضر، فإن الأخيرة حتما ستكون نتيجة تترتب على الاثنين يقول :
وقد يمر وقت قبل أن تدركوا
أن ضربات قلوبنا التي تسبب لنا الكثير من الألم
لن تترك لكم ليلة هادئة لتغمضوا عيونكم.
يسكن الوطن بكل تجلياته ورمزيته، وعشقه الممتد اللا متناهي الشاعر في القصيدة حيث عبر عن حبه له في علاقته بالتاريخ. وبالتغيير والتحول، بنى الشاعر صوره المعنوية على حمولات رمزية، استدعت الطفولي ولعبة الطائرات المشدودة بالخيطان، المعبرة عن عدم الحيلة والقهر واغتصاب الطفولي ، في أرض أخذت قهرا . و تحيل الصور الرمزية إلى تبيين حالة الشاعر في علاقته بالأرض وفي تعميق صورة المعاناة، والتشبث بالقضية
و الدفاع المستميت عن الوطن.
إن كل تجربة شعرية هي تجربة وجدانية تحمل إيقاعها الصوتي الملائم لها وفق اختيار الشاعر لألفاظ اللغة وخصوصية تراكيبها وأساليبها . ويمكن القول إن القصيدة الحديثة تركز في إيقاعها على الموسيقى الداخلية، وقدرة الشاعر على استغلال طاقات الأصوات في اختيار الكلمات أكثر من اعتمادها على الموسيقى الخارجية . ويبدو أن الشاعر وليد آل هليس نحا هذا النحو، إذ تستمد القصيدة ” أوراق قديمة” إيقاعها الداخلي من التقابلات المعنوية بين بعض ألفاظها وتراكيبها: الأرض / البحر، الضمير أنتم أخذتم / نحن منا، كما يتواتر ويتكرر ضمير المتكلم المهيمن على النص (منا ..اعتدنا ..نربط طياراتنا ….) وهكذا فتكرار ضمير المتكلم ظاهرا ومستثرا مرات متعددة تأكيدا على الذات المقصودة هنا أكسب المعنى عمقا، وتثبيتا في ذهن المتلقي، إذ ” تنبع القيمة الفنية للعبارة المكررة من كثافة الحالة النفسية التي تقترن بها ” على حد تعبير نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر. كما أكسب النص إيقاعا قويا متناميا متصاعدا دلالة على الحالة النفسية التي يتصاعد تأزمها باتساع تأثير الحدث المخبر عنه، وتأكيده باللام وقد وهو ” أخدتم كل شئ… منا ” . ورغم كل هذا فالشاعر يعبر عن الإيمان القوي بالوطن والقضية وعدم الاستسلام بقوله:
…قبل أن تدركوا
لن نترك لكم ليلة هادئة لتغمضوا عيونكم.
لقد انفرد الشاعر وليد آل هليس في قصيدته هذه بأسلوبه المتميز الرشيق العبارة ، فاختار ألفاظه ولغته ، وخلق عالمه الشعري بصوره المؤثرة في المتلقي، والمعبرة عن عالمه النفسي وصوره الرمزية ، في انسجام تام بين الصور المعنوية والفنية والإيقاعية . ويبقى الشاعر العربي وطيد العلاقة بالتعبير عن واقعه المتغير في منعطفاته ، محاولا تجاوز كل مرحلة إلى أخرى، وذلك باستشرافه دائما لواقع آخر مغاير يتطلب أساليب متعددة مختلفة منفتحة على مجالات واسعة أرحب، في التعبير عن الحالات الشعرية ؛ الشعورية والحياتية والعاطفية فيه ، تحقق للشاعر آفاقا ودروبا جديدة حرة متشعبة.
خفايا الروح لصفاء فارس الطحاينة
سقيفة المواسم الألكترونية
جاءت قصص صفاء فارس الطحاينة وهي فنانة تشكيلية وصاحبة ذائقة فنيّة رفيعة تجمع بين تموجات وظلال الخطوط وإيقاع الحرف الشفاف،