لقد وُهِب هذا الشعر ايقاعاً متفرداً ومُنح من الأوصاف ما مكَّنه من الاستعانة بأجزائه عن كل حركة، وبأوزانه عن كل محاولة، للاستعانة بإيضاح التعبير أو التدليل عن الغرض، أو تجسيد الفكرة، وقد جسد هذا الإيقاع خلقًا جديدًا متمازجًا بالفكر واللغة والرّموز والصّور والرّوح، وقد بان في تمظهره الصّوتي الصّريح، علاوة على ذلك انسرابه في بقية خطوط القصيدة وعناصرها، وكذلك خضوعه لعنصر الزّمن.فتنتقل شاعرتنا من مضمارها المعهود إلى ساحة تسيطر عليها جزئيات وتفاصيل دقيقة تستغل الشاعرة مكوناتها في سبيل التخطيط لهندسة معمارية داخلية على علاقة وطيدة بالانفعالات النفسية، والإيحاءات الدلالية، التي ترسم إحداثيات التوتر الإيقاعي المتناغم مع حركة النفس، و حركة الدلالات النصية، لذلك تتجه صوب حركة الداخل التي تنمو وتتطور بفعل التواصل والتفاعل بين معظم مكونات النص، و نسيج علاقاته..
إقتباس :
يا مُلهِمَ الشُعَراءِ جئتُ و فــــي دَمي
يــغـفـو الـحـنـيـنُ مُــعَـذَّبـا مُـرتـابـا
بـيـن الـمـشاعرِ ذكـريــاتٌ لـم تَـزَلْ
تَــنـداحُ فــي صَــدرِ الـنَـهارِ عِـذابـا
توظيف صوتي وتوجيه معنويّ يتحقق بالتطويع بين المبنى والمعنى، بين التصوير والتخييل بين الصوت والكلمة بين التعبير والتركيب، وكل نوع من هذه الجمل يعكس اسلوبا معيّنا وايقاعا مخصوصا تنتجه ثنائية الذات الشاعرة فتغدو القصيدة بالنسبة اليها مجمع أصوات، للفرد والمجتمع والمستويات الجمالية والفكرية.
إقتباس :
سـافرتُ دهـرًا فــي بُـحورِ حـرائقي
فـغـرقـتُ.. و ازدادَ الــعَـذابُ عَـذابـا
و ذرَفـتُ دمعــي فوقَ صَدرِ قصائدي
و صَـنـعْتُ مــن نــارِ الـعِتابِ حـجابا
و ركِـبـتُ أشـواقَ الـرَبيـعِ فـشدَّني
ســهــمٌ تـعَـفَّـر بـالـهَـوى فـأصـابـا
ويغدو الايقاع في النص بالنسبة لنا كلاّ منسجما لا يمكن فصل مكوّناته بسهولة ولذلك أميل الى القول بأن الايقاع هنا قد تموسق بوتر ينبض داخل النص وفق مستويات التقبّل لدى الشاعرة ووفق حساسيتها الفكرية والنفسية.
إقتباس :
عـتَّـقتُ حـرفــي فـي جِـرارِ مَـوَدَّتي
و حَـضـنـتُ حُـلـمًـا فــتَّـحَ الأبــوابـا
بِنَدَى المَحبَّــةِ قد سَقيتُ مَشاعري
و فَـتـحـتُ قـلـبـي لـلـحَبيبِ كِـتـابا
والجميل من الشعر هو الذي يشبع الألحان ويملأ الأنفاس ويعدّل الأوزان ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب ويقيم الإعراب ويستوفي النغم الطويل ويحسن مقاطع النغم القصار ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النبرات ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات، وقد توفر هنا بوضوح. أما التلوين الصوتي الصادر عن الألفاظ المستعملة ذاتها فهو أيضا يصدر عن الموضوع في حين يفرض الوزن على الموضوع. هذا من الداخل، وهذا من الخارج.
إقتباس :
ياَ مَنْ حَفَرْتُكَ فــي فُؤادي, وانْتَشىَ
حَـرْفي بِـنُورِكَ: هَلْ غَدَوْتَ سَراباَ؟!
مَـا عُـدْتُ أنْـسُجُ مِـنْ وُرودي زَوْرَقـاً
لـلـحُـلْـمِ حَــتـــــــىَ يَـبْـلُـغَ الأسْـبَـابـاَ
حَـتَّامَ تَـبْقـــىَ تَـسْتَخِفُّ بِأدْمُعي..؟!
وإِلاَمَ تَــبْـقـىَ تُــغْـلِـقُ الأبْــوابـاَ ؟!
بما أن الإيقاع في القصيدة هو العنصر الذي يميز الشعر عما سواه فضلا عن أنه يتخلل البنية الإيقاعية للعمل، وإن العناصر اللغوية التي تتشكل منها هذه الأبيات تحظى من ثنائية رائعة في علاقة انسجام ووئام بما لاتحظى في أوقات عادية، وثمة أمر هام آخر وهو “أن البنية الشعرية لاتبدو في بساطة تلك الظلال الجديدة لدلالات الألفاظ، بل إنها تكشف الطبيعة الجدلية لهذه الدلالات، وتجلو خاصية التناقض الداخلي في ظواهر الحياة واللغة، الأمر الذي تعجز وسائل اللغة العادية عن التعبير عنه.
وهكذا يغدو عند سفانة مفهوم الشعر ذاته مفهوم خطاب نوعي تسهم كل عناصره في خاصيته الشعرية ويصبح ” التناغم الشكلي” الذي يتضمن في رأيي إيقاع المفردات بالنظر إلى بنيتها المقطعية، وتبيان التناغم الذي تحدثه الظواهر الصوتية في بعض مفرداته، وإيقاع الجمل التي تقوم بنيتها على أساس متين، وتقوم حركتها بتقديم تشكلات مقطعية؛ وفاعلية نبر وفاعليات صوتية ودلالية يخلق انزياحات إيقاعية،
أما “التناغم الدلالي” الذي يضم إيقاع التواصل؛ أي انسجام حركة الدلالات فيما بينها؛ مما يدفع إيقاعاً يحمل خصائص متشابهة؛ مما يفيد ولادة حركات جديدة، ثم إن توزيع الكلام في القصيدة البائية بهذه الصورة هو نتيجة حتمية لطبيعة الأوزان التي تَنْظِمُه؛ مما يجعلنا نقول، انها إيقاعية مرئية، بل هو من واقع الحال – أن يُعتبَر ذلك، ولا سيما بالمقارنة مع الأجناس الأدبية المعروفة، وهي إحدى السمات العفوية للإيقاع المرئي بامتياز. ويمكن القول إن الإيقاع المرئي اعتمد بدايةً على ترك فراغات بيضاء في الأبيات والسطور؛ ثم انتقل إلى استخدام الرموز والعلامات، ليتجلَّى، فيما بعد، في تشكيل رسوم فنية، ليس من الخطوط، وإنما من كلمات القصيدة ذاتها.
وقد جاء الإيقاع هنا على مستويين نوعيين:
المستوى الكيفي حيث اعتمد على النَّبْر في الجمل، وربما في الكلمة الواحدة.o
المستوى التنغيمي وقد اعتمد على أصوات الجمل، من صعود وانحدار وماشابه.o
إقتباس :
يُـحـكى ؛ بــأنَّ الـقلبَ هـامَ عَـذابــــا
و عـلـى هَـديـرِ الـمَـوجِ ثــارَ عُـبـابا
يُـحـكى ؛ تُــراودُ يـا سَمينـي غـصَّةٌ
فـــــإلامَ أنـــطــرُ مــوعــدًا كــذّابــا
قام الإيقاع على أساس صوتي لغوي، أي: إن الأساس كان الواقع اللغوي الشعري، وترتيب الأصوات فيه وقد تَقصُر مقاييسُنا العلمية عن تحديد سرِّ الجمال فيه، وهذا القصور يبدو بصفة خاصة في الجمال الداخلي في الأسلوب الذي يعتمد على طريقة رصْف الكلمات بعضها إلى بعض؛ لأن وضْع الكلمة أو العبارة كثيرًا ما يُوحي بطرافة دقيقة، أو يُثير شعورًا بالجمال.فالأسلوب الشعري لا يَصلُح له من العبارات إلا ما كان موزونًا، وله جرسٌ موسيقي، ولا يصلح له من العبارات أيضًا إلا ما كان جَزِلاً ورقيقًا؛ حتى يتحقَّق عنصر التهذيب والتأثير المرجوَيْن من الشعر. وقد حصل هنا.