الأمومة في قصيدة “شجرتها”
للشاعر د. سعد ياسين يوسف
د. فطنة بن ضالي
هل كان شاعرنا يركن و يمتح من الذاكرة ليكتب سيرة حياة ، أم ليكتب شعرا في المرأة / الأم التي طبعت وأثرت و أثرت حياته ؟
حقيقة لا يمكن الوقوف على خصوصية وجود المرأة / الأم في شعر شاعر من نص واحد ، بل يستدعي الأمر دراسة التجربة الشعرية بأكملها ، لكننا هنا سنعتني – تجاوزا – بنص واحد ، وهو قصيدة “شجرتها” من ديوان “الأشجار تحلق عميقا” للشاعر العراقي الدكتور سعد ياسين يوسف ، وهو ديوانه السابع ؛ ستة من دواوينه تحمل في مركبات عنوانها لفظ الأشجار، ولذلك لقب شاعرنا “بشاعر الأشجار” . وأما القصيدة موضوعنا فقد ختم بها الشاعر ديوانه .
وهي رسالة موجهة إلى الأم ، حيث الأم ركيزة التربية على مستوى الواقع وعلى مستوى الرمز نظرا لدورها الكبير في حياة الإنسان ، انطلاقا من كونها “القرار المكين ” إلى ما بعده، إذ تتوثق الصلة الطبيعية التي جبل عليها الله الإنسان بينه وبين أمه ، وهي رمز للأرض وللعطاء والتضحية في كثير من التجارب الشعرية ، تتوحد و “جيكور” في شعر بدر شاكر السياب ، وتتجسد في الانتماء والحنين إلى الوطن في شعر محمود درويش . وقد استهل الشاعر هنا قصيدته استهلالا يعزف فيه على أوتار وجدان السامع / القارئ ، مفصحا عن مشاعره تجاه الأم والأمومة ، يقول :
إلى أمي
مع أول صرخة
وأول إبصار للنور
كانت حضرتك
تربت على صدري
ألا تخف .
إذ لعب هنا التوازي على مستوى المعنى و التركيب دورا مهما في تقوية الإيقاع ، مع الإحالة في الفعل ” ألا تخف ” على معنى الخوف الذي تحيط به الأم أبناءها ، كما تحيل العبارة إلى أم موسى عليه السلام في قوله تعالى ” ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك ” القصص “7”، حيث يبين الشاعر خوف الأم عليه ، ذلك الخوف المشوب بمحبة الابن والذي يجعلها تتحمله عنه كما تتحمل كل شعور سلبي . بقولها ” ألا تخف “. إيمانا بأن الله مع عباده المؤمنين ” ألا تخافوا ولا تحزنوا ” فصلت 30. يقول في المقطع الأخير :
وحين كبرت
كتبت القصائد لنساء كثيرات
!!!!ويالجحودي
لم أكتب لك
إلا الساعة بعد أن أدركت
أن القصيدة التي
لا ترسم بريق عينيك
يا أمي
صلاة باطلة
لن تبلغ السماوات.
تتحرك نفسية الشاعر بإثارة التعجب والاستغراب من جحوده حق الأم في الكتابة لها ، تقصيرا منه ، وقد كتب لنساء كثيرات غيرها ، وهذا اعتراف واعتذار عن التأخر في الفعل ، ويرى أن القصيدة الحقة هي قصيدة قيلت في مشاعر الأمومة وما يحفها من صدق عاطفة فهي بمتابة مناجاة و “صلاة”و دعاء مستجاب تفتح له أبواب السماوات .
ويقول :
وحين رفعت يديك إلى السماء
زمجر الأفق بالبريق
(…)
هكذا كلما مرت بروحي سحابة
لذت بك أن ارفعي يديك
وتمتمي بما أعرف ، ولا أعرف
وارتقي سلم التمتمات المقدسة
تأكيد على القيام بالمسوؤلية على أحسن وجه ، ورعاية الأم له رعاية تامة ، فالأم هي منبع الثقة والأمن والأمان في دعواتها الصادقة لأبنائها، إذ تبدو دعواتها نور يمحو الظلام ويزيح الهم ويفرج الكرب ، عبر عن ذلك ب : (بصوت راعد/ قال للشمس : أن أشرقي على محياه/ كمثل معجزة نضى الغيم ثوبه / فانتشر الضياء..) ، فكلما رفعت الأم الأكف إلى السماء حتما تأتي ( البشارة )، وبهذا يرمز الشاعر إلى مكانة الأمومة في الوجود وفي الدين ، وإلى تبجيلها وتعظيمها . يقول :
ولم أك أعلم
أن قلادتك التي صاغها أبي
تفقد كل عيد
واحدة من ليراتها الذهبية
لتصير قمصانا وأحزمة جديدة
فتستبدلين بريقي ببريقها
وتزهرين كشجرة ياسمين
كلما مررت أمامك
. !!! قلت : هو ذا
ذلك أن الفنان والشاعر المبدع يتأثر بحالات معينة ثم ينقلها من الواقع على شكل صور متحركة مابين واقعية ومتخيلة ، وطبيعية ورمزية ، وشاعرنا يستعير في قصيدته مخزونه الخاص من الصور والذكريات ليصوغها بفنية رائعة في تناوله للأم والأمومة ، فيحكي في القصيدة ذكريات الطفولة ، وعن تضحيات الأم بالغالي والنفيس في سبيل فرح الابن، تفاصيل تدل على نكران الذات والعطاء المتواصل بدون توقف : ثم يتمم .
ومازالت لهفتك محفورة
على جدار ذاكرتي الغضة
يوم غرقت في زحمة السوق العتيق
كان الأسود يسرق صوتي
وكنت كمثل “هاجر” تبحثين عن بريق وجهي
وأنت تركضين بين “مروة” مدخل السوق
و”صفا ” نهايته
حتى أشار لي الواقفون وأخرجوني
لينهمر نهر ضياعك
يقينا وعناقا …
صورة مركبة يشبه الشاعر فيها هلع وخوف أمه ، وهي تبحث عنه بين الأرجاء لما ضاع في السوق العتيق بأم سيدنا إسماعيل ” هاجر” وهي تطوف باحثة عن الماء خوفا على ابنها من شدة العطش لما نفد لديها الماء وهي بمكة ، حتى رحمهما الله بتفجير بئر زمزم . بعد أن دعا إبراهيم عليه السلام كما ورد في الآية الكريمة :
“ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون” ابراهيم 37
( انظر التفاصيل في تفسير القرطبي ) .
وبناء على ما سبق تكون الأم شجرة من شجرات الوجود المميزة ، فهي تارة شبيهة بشجرة الياسمين المزهرة وأخرى شبيهة بأمهات الأنبياء وثالثة مؤمنة راضية تصنع بريق الابن الذي هو “شجرتها” ، فيصبح وهاجا يشع منه النور، وكأني به هنا يشير إلى نبوة الشعر .
يتميز النص بحضور قوي لصوت الشاعر الحاكي المتمكن ، ونبضه المتسارع الذي حقق للنص وحدة التناسق والانسجام بين صوره المعنوية والتركيبية ، مع إحالاته على الموروث الثقافي و الديني ، مؤكدا على قيم الأمومة ، فهي الصوت الذي إذا دعا انفتحت له أبواب السماء .
وهكذا كتب الشاعر قصيدته للأم يزاوج فيها بين السردي والشعري ، راعيا أفكاره حول الأم انطلاقا من مواقف و سلوكات جسدت العلاقة بينهما ، بأساليب بلاغية ، تشبيهات واستعارات ومجازات في صور رائعة .
شجرتها..
إلى أمي …
مع أول صرخة
وأول إبصار للنور
كانت حضرتك تربت على صدري
– ألا تخف…
وكلما ادهم ليل
أضاءت أغصان شجرتك قناديل
البهجة .
فتنطلق الكركرات …
ناعمة بيضاء
مثل رفيف نوارس شط العمارة
حتى علت وجهي سحابة
الحريق …في غفلة منك
وحين رفعت يديك إلى السماء
زمجر الأفق بالبريق
وبصوت راعد
قال للشمس : أن أشرقي على محياه
وكمثل معجزة نضى الغيم ثوبه
فانتشر الضياء
هكذا كلما مرت بروحي سحابة
لذت بك أن ارفعي يديك
وتمتمي بما أعرف ، ولا أعرف
وارتقي سلم التمتمات المقدسة
……
فيما يوصل نبضك إلى السماء
مثلما الهلاهل التي كانت تصعد
لمساء المحلة
كلما عدت رافعا
يدي بالبشارة
كانت أناملك
ترتب شكل العيد وترسمه
على ملابسي….بالمسك والقرنفل
ولم أك أعلم
أن قلادتك التي صاغها أبي
تفقد كل عيد
واحدة من ليراتها الذهبية
لتصير قمصانا وأحزمة جديدة
فتستبدلين بريقي ببريقها
وتزهرين كشجرة ياسمين
كلما مررت أمامك
. !!! قلت : هو ذا
ومازالت لهفتك محفورة
على جدار ذاكرتي الغضة
يوم غرقت في زحمة السوق العتيق
لتسرقني عباءة الغجر
كان الأسود يسرق صوتي
وكنت كمثل “هاجر” تبحثين عن بريق وجهي
وأنت تركضين بين “مروة” مدخل السوق
و”صفا ” نهايته
حتى أشار لي الواقفون وأخرجوني
لينهمر نهر ضياعك
يقينا وعناقا …
وحين كبرت
كتبت القصائد لنساء كثيرات
!!!!ويالجحودي
لم أكتب لك
إلا الساعة بعد أن أدركت
أن القصيدة التي
لا ترسم بريق عينيك
يا أمي
صلاة باطلة
لن تبلغ السماوات.
ديوان ” الأشجار تحلق عميقا “.
الأمومة في قصيدة شجرتها للشاعر د. سعد ياسين يوسف