فدوى خصاونة

إنسحاب – فدوى خصاونة

إنسحاب – فدوى خصاونة

الإنسحاب من أرض المعركة بأقل الخسائر بطولة تسجل للقائد ، و الكلام معركة صغرى تتولد منها الحروب ، والإنسحاب من ميدان تراشق الألفاظ نجاة إلى بر السلام .

ليس عيبا أن نمتدح ونثني على أشخاص نعد مناقبهم وكرم اخلاقهم ونبل رسالتهم ، بل إننا عندما نستمع لمن يثني على شخص يزيد احترامنا وحبنا له ونتمنى أن يتهيأ لنا وقت لملاقاته والتعرف اليه .

ولكن ماذا يحدث عندما نستمع لشخص يثني على نفسه ويعد مناقبه ؟
ماذا يحدث عندما نقابل أشخاص يمتدحون صفاتنا و يثنون على تصرفاتنا ، يقولون عنا ما ليس فينا من مكارم الأخلاق ؟

في تلك الامسية ومع تساقط ورقات التوت حتى تكاد الشجرة أن تتعرى تماما من آخر ورقة صفراء كنا نجلس على غطاء أصفر ، وخشخشة الأوراق تطرق سمعنا كما يطرق السمع حديث جارنا الشاب وهو يرتدي بدلة وربطة عنق ويضع ساقا على ساق وبيده سبحة أذكار ، كنا نراه قبل ان يتحدث رجلا وسيما ، رجلا راقيا أنيقًا ؛ وما إن ن بدأ حديثه حتى تعرى تماما كما هي حال شجرة التوت التي نستظل أغصانها المكشوفة ، تساقطت عنه كل المعاني الجميلة ، و لم يعد لديه ورقة واحدة يتغطى بها ؛ ذلك أنه بدأ يعدد محاسنه بالقول : أنا إنسان صادق
أنا كريم
أنا لا أقبل بالظلم
انا لا أترك أذكاري
أنا أتصدق على الفقراء ، وأعطي فلان من زكاة أموالي ، وأصل أمي وأخوتي .
الحديث كان مملا كما يقول فولتير : سر الملل ان يقول الشخص كل ما عنده .
وصاحبنا أفرغ كل ما في دلوه او ثبت أن دلوه فارغ الا من هواء ؛ ذلك الحديث مدعاة للإنسحاب ومغادرة الجلسة .

و في اليوم الثاني وفي جلسة بنفس المكان كان الحديث مختلفا مع شخص آخر أخذ يمتدحني ، جعل مني رسول ، أسقط علي صفات لم أسمعها من قبل ، كل ذلك جعلني أشعر بالخجل ، حاولت إسكاته تمنيت لو أنني أتمكن من خياطة فمه حتى لا يتحدث بأكثر مما تحدث به ؛ كلماته كالصفعات المتتالية ومن قال : ان المديح بالوجه ليس ذما ؟
بل أنه أشد وقعا على نفس الكريم من بذاءة اللفظ والسب والتحقير ، بل وانه تحقير و تكسير لكل معنى تحمله النفس النبيلة، المديح في الوجه يجعل الممدوح عاجزًا عن الرد ليأخذ بالألفاظ عكس ما احتملت معانيها ؛ فالقول : انت كريم فذلك تأكيد أنني بخيل ؛ وفي ذلك ورد عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : لو مشى رجل إلى رجل بالسيف خير من أن يمتدحه في وجهه .
واذا رأيتم المداحين فحثوا في وجوههم التراب .
مديح صديقي أشعرني بالنعاس حتى انسحبت سريعا .

وفي اليوم الثالث وقد سقطت آخر ورقة من ورقات التوت وطارت مع ريشة خفيفة ، حل علينا عدد من الضيوف بدأ أحدهم بعتابي ولومي على أمور لا علاقة لي بها لقد استفزني هذا الشخص وتسبب لي بضغوط ؛ فهو يتصيد أخطائي وكأنه يصطاد سمكة في وادي وكأنه يحمل عدسة مكبرة تضخم عثراتي ، يريد تعريتي وكشف أسراري ، يريد أن يظهر عيوبي أمام الجميع ؛ يقول أحد الأدباء : افعل ما هو صحيح ، ثم أدر ظهرك لكل قول سخيف ، الأمر الذي استدعى ترك الجلسة و الإنسحاب فورا .

فدوى بهجت خصاونه

About abdulrahman alrimawi_wp

Check Also

لا ليلنا ليل ولا نهارنا نهار – فاطمة شريح

تستنفزف أعصابنا ...وطاقاتنا ...وتموت بأعيننا كل بهجة أومت لنا بحضور ما ....الا أن هذا الصباح شق من فمي ابتسامة ....استغربها من حولي وقد اعتدوا وجومي وقلة كلامي

%d bloggers like this: