مباركة وذكرى وموعظة – عبدالسلام الريماوي
قبل ستة عشر عاما أوصلت مريم إلى مدرستها والتقطت لها صورتها الأولى بالمريول الازرق..
كأن هذا حدث بالأمس القريب..
وها هي ترتدي ثوب التخرج من جامعة بيرزيت، قسم المحاسبة، وهو نفس الثوب الذي ارتداه والدها قبل سبع وعشرين عاما، من دون أن يملك صورة واحدة توثق ذلك الحدث البعيد.
ما أبعد اللحظة، ما أجمل الذكرى!
في يوم من أيام الزيتون وكان الموسم ماسيا، ولدت مريم قبل اثنين وعشرين عاما.
جاءت مريم في موسم الخير، وجاء معها كل الخير
كنت والأهل منهمكين في قطاف الزيتون في حقل بواد ذي شجر كثيف، حين استدعيت على عجل عصر يوم صيفي وتحديدا العاشر من اكتوبر، لأن والدتها جاءها المخاض، وكانت البلاد كل البلاد في حالة مخاض من نوع آخر، وفي حالة انبعاث من رماد القهر والاستعباد، بعدما تنكرت دولة الاحتلال لخيار السلام الذي أمل الفلسطينيون ان يعيد لهم الحد الادنى من حقوقهم، فكانت انتفاضة العام 2000.
كانت دورية لجيش الاحتلال تغلق مدخل بيرزيت الشمالي المفضي الى رام الله. اجبرت على التوقف على مسافة من الجنود، وترجلت من السيارة وابلغتهم أن زوجتي في حالة مخاض، ولم يسمح لي بالمرور الا بعد ان حضر أحد الجنود وعاين من في السيارة، زوجتي ووالدتها.
كانت الوجهة مشفى الرعاية، حيث لم يدم المخاض سوى ساعات قليلة، ورزقت بطفلة هادئة مثل القمر منحتني الأبوة لأول مرة. أسميتها مريم تيمنا باسم أمي، ومثل هذا الاسماء لا ينطفئ بريقها ولا تبدله الأزمان.
ملأت مريم البيت بالنور والفرح، وكانت بخلاف كل الأطفال هادئة رقيقة غير متطلبة وتفرض حبها على كل من يراها.
ولن أنسى ذلك الدرس العظيم الذي لقنتني أياه بنظراتها البريئة، عندما صفعتها على وجهها بسبب شقاوة صغيرة لا تستحق عقابا. لن أنسى حجم الذهول في عينيها وكأنها تؤنبني: أيعقل ان يضربني هذا الذي يغمرني بالحب؟ بكيت بحرقة لاسابيع طويلة.
نحن الآباء والامهات قد ننفجر غضبا في المكان الخطأ ومع الشخص الخطأ.. ايها الاباء والامهات لا تضربوا أبناءكم بأي حال من الاحوال ومهما كانت الأسباب.
التحقت مريم في سن مبكرة بجمعية الكمنجاتي لتعليم الموسيقى وكانت الكمنجة آلتها التي لم تبرح كتفها لاكثر من ثماني سنوات، لتسجل حضورا لافتا مع زميلاتها وزملائها في العديد من الفعاليات الثقافية والفنية، لكنها – أي الكمنجة- تشتاق كثيرا لكتف مريم ودفء قلبها..
هذه مناشدة مني لمريم: عودي إلي الكمنجة..
كبرت مريم ولم تزدد الا هدوءا واتزانا وتهذيبا، ولم تكن لديها شقاوة الصغار الا بالحدود الدنيا ولا أتذكر يوما انها كانت طرفا في مشكلة سواء في المدرسة أو في البيت. وفي مرحلة متقدمة من حياة المدرسة بدأت مريم تبدي ميلا لافتا الى الرسم، وبدأت ترسم بالرصاص ومن ثم اجتاحت الالوان الواضحة لوحاتها واستطاعت بمحاولات وجهود ذاتية ان تقطع شوطا وتطور أدواتها على هذا الصعيد.
أيها الآباء والأمهات،
قفوا الى جانب أبناءكم وبناتكم دائما وأبدا، واعتمدوا التشجيع والدعم سبيلا لتعزيز وتنمية قدراتهم ومواهبهم كي يتمكنوا من تحقيق ما لم تستطيعوا أنتم تحقيقه، أو ليسبقونكم في مسيرة الإنجاز والتحصيل والحياة بشكل عام…
كم هو رائع لو ملكنا القدرة على أن نعيد الزمن الى الوراء حين يجتاحنا الحنين!
عبدالسلام الريماوي