تتكون القصيدة من ثمان وعشرين بيتا تدل على النفس الطويل للشاعر وليد حرفوش
مَذْبَحُ الأَشْواقِ
سَكَنْتُ جُرْحَ الْهَوى في مُهْجَةٍ سَكَبَـتْ دَمْعَ الْمَشاعِـرِ مِنْ قَلْـبٍ جَـرَحْـنـاهُ
غَـنَّى بِعـاطِـفَـةِ الْـوِجْـدانِ في جَــسَــدٍ عَاشَ الْهُـيـامَ عَـذابـًا ما رَحَـمْـنــاهُ
عُـدْنا إِلى مَـوْرِدِ الإِحْسـاسِ نُـشْـرِبُــهُ مِـنْ خَـمْــرِ دالِـيَـةٍ رَوَّتْ حَـنـايــاهُ
مـا عـاد يَذْكُـرُ كَـمْ كَـأَسٍ أُرِيـــقَ لَــهُ مِنْ شِـدَّةِ الْـوَجْـدِ لَمْ يُـدْرِكْ نَـدامـاهُ
خُـذْنـي إلى مُـقَـــلٍ في عـالَـمٍ ثَــمِـــلٍ عَــلَّ الجِـرارَ بِخَـمْـرٍ مـا أَلِــفْــنـاهُ
زارَتْ مَواسِمَنا الأَشْـواقُ فَـالْـتَهَـبَــتْ روح الصبـابـة في كــرم فــتــنــاه
ما لَـذَّةُ العُمْرِ لَوْ مِنْ كَـوْنِـنـا رَحَـلَــتْ شَمْسُ الْمَحَـبَّةِ وَاخْـتَــارَتْ زَوايـاهُ
ما رَوْعَةُ الكَـوْنِ لَـوْلاَ الحُـبُّ زَيْــنُـهُ مِنْ كُـلِّ لَـوْنٍ أَنِـيـقِ الطَّيْـفِ لَــبَّـاهُ
ياعاشِقَ الْحُبِّ إِنَّ الْأَرْضَ لَوْ حُرِمَتْ مِـنْ لَـذَّةِ الْـوَصْـلِ مَا كُـنَّـا هَـدايــاهُ
آمَـنْـتُ بِالَّلـهَــبِ الْمَخْـمُـورِ في شَـفَـةٍ حِينَ ارْتَـشَفْـنـا عَـرَفْـنا مِـنْهُ مَعْنـاهُ
رُوحي فِـدا هَـيْـكَـلٍ لِلْـحُـبِّ مُـؤْتَـلِــقٍ بَيْـنَ الْمَـشَاعِـلِ في شَـوْقٍ قَصَدْنَـاهُ
نَلْقـاهُ في مَوْكِبِ الْإِحْساسِ في فَـرَحٍ بَيْنَ النُّـجـومِ إِلى صَـرْحٍ عَـشِـقْـناهُ
الْـعَــابِــرون إِلـى أَنْــوارِهِ حَـمَـلُـــوا نَـارَ الْمَـشاعِـلِ في دَرْبٍ سَلَـكْــنـاهُ
نَحْـوَالـتَّـخَـفُّـفِ مِنْ أَحْـقـادِ عالًمِهِـمْ فَالطَّـامِحـونَ إِلى الْأَحْلامِ ما تَاهُـوا
ذَنْـبُ الْمَحَـبَّـةِ أَنَّ الْقَــلْـبَ عـانَـقَـهــا وَالْـحِـقْــدُ مـالَ إِلَيْهِ الْـمَـالُ وَالْـجَـاهُ
يا راهِبَ الْحُـبِّ إِنَّا مِـنْـكَ في خَـجَـلٍ لَـمَّـا إِلـى مَـذْبَــحِ اللَّــذَّاتِ سُـقْــنــاهُ
لَـبًّـى الـصَّبـابَـةَ قَـلْـبٌ ذَابَ مِنْ وَلَـهٍ بِالْـكَـادِ يَــذْكُــرُ في أَمْـرٍ خَــذَلْــنـاهُ
كُـنَّـا في مَـذْبَــحِ الْأَشْـواقِ أُغْــنِـيَــةً وَالْقَــلْــبُ يَـعْـزِفُ لِلْأَرْواحِ نَـجْـواهُ
مِثْـلَ الْفِـراشِ عَلى قِـنْديـلِ عَاطِـفَـةٍ يـَـشْـتـاقُ لِلـنُّــورِ لَـكِــنَّــا بَـهَـرْنــاهُ
ما مَـسَّـتِ النَّارُ أَرْواحاً بِها شَغَـفٌ بَــلْ نَحْــنُ بِالْآهَـةِ الْحَرَّى كَـوَيْـنـاهُ
يَا مَنْ نَشَرْتَ عَلى دَرْبِ الْهَوى عَبَقًا (قَيْـسٌ) يُعـانِـقُ في الْأَنْـسامِ (لَيْلاهُ)
وَالْمُولَعُـون بجَـمْـرِ الْحُـبِّ أَسْعَـدَهُـمْ أَنَّ الْـغَــرَامَ إِلى الـدُّنْـيَـا نَـشَـرْنَــاهُ
حَلَّقْتُ في أُفُقِ الإِحْساسِ في شَغَـفٍ رُوحً الصَّبابَـةِ وَالـنَّجْـوَى جَنَاحَـاهُ
اَلْفَـجْــرُ في كُــوَةِ الْأَنْـوارِ نُـدْرِكُــهُ وَالطُّهْرُ في بَـرْزَخِ الْأَرْوَاحِ نَلْـقاهُ
مَا تـاقَ قَــلْبٌ إِلى الْأَفْـرَاحِ مُنْـبَهِـرًا إِلَّا لِـيَـهْـــرَبَ مِـنْ حُــزْنٍ تَـــوَلاَّهُ
اِنْسَ الْوُجـودَ وَلا تَأْبَـهْ بِـما حَـمَلَـتْ دارُ الْـمَـتـاعِـبِ مِنْ هَـمٍّ سَـئِـمْـنـاهُ
لَمَّا سَـمَـوْتُ بِنَارِ الشَّـوْقِ مُـرْتَـفِـعـًا أَدْرَكْـتُ بِالْـحُـبِّ أَنَّ الَّلـهَ يَـرْعــاهُ
يَا حامِلَ الْوَجْدِ في مِحْرَابِكَ احْتَرَقَتْ رُوحٌ تُــؤَكِّــدُ أَنَّ النَّــاسَ أَشْــبــاهُ
في الموضوع وهو وصف الحب والشوق بمعان عميقة وصور مركبة بفنية رائعة مميزة لأسلوب الشاعر، حيث يتناول الحب ودوره في الحياة وعمقه في الوجدان بلغة رصينة جزلة . بدءا من تجلياته الحسية الواقعية مرتقيا به إلى مراتبه العليا الروحانية ، وهو في هذا يسلك طريقة الصوفية التي يمكن أن يُدرك فيها المعنى الظاهري ويُتذوق في المعنى الرمزي، كما قال أبو حيان التوحيدي في ترجمان الأشواق : ” جعلت العبارة بلسان الغزل والتشبيب لتعشق النفوس بهذه الدواعي وتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها ، وهو لسان كل أديب ظريف روحاني لطيف ”
1. يصف الشاعر الحب والشوق وما له من إيجابيات في الحياة لدى بني البشر، فعبر عن هواه وأشواقه بقوله 🙁 سكنت جرح الهوى …قلب عاش الهيام …زارت الأشواق فلتهبت ) ، فبين أن الحب شعلة حقيقية تنفجر من القلب ، وهي طبيعية في الإنسان ، و تتعلق بمن أو بما أراده الله سبحانه وتعالى ، وللحب قوة في التأثير شبيهة ب (الجرح و الجمر والنار )، إذ يشعر الإنسان أول وهلة ولحظة بتأثيرها ويظل في طوق المحبة كأنه العذاب الأليم ،كما بين أن الأشواق تفقد الإنسان عقله النقاد كما يفقد المخمور عقله، يقول (عل الجرار بخمر ما ألفناه …آمنت باللهب المخمور) ، وأكد أن الشوق ضروري في الحياة ، والشوق كما يعرفه بنعجيبة هو “نزوع القلب إلى لقاء الحبيب و الاشتياق : ارتياح القلب إلى دوام الاتصال به ، …فالشوق يزول برؤية الحبيب ولقائه . أما الاشتياق لا يزول أبدا لطلب الروح الزيادة في كشف الأسرار والقرب إلى الأبد”
2. ويقرر الشاعر أن لا حياة بلا محبة ولا جمال ولا روعة للكون إلا بها ، متسائلا حول الوجود وعلاقته بالحب (ما لذة العمر …ما روعة الكون لولا الحب زينه ) استفهاما إنكاريا بمعنى ليس للعمر لذة وليس للكون روعة إلا بالمحبة ، فالمحبة هي التي تزين الكون بألوانه وأشكاله المتوازية المتناسبة ، فلو لم تكن موجودة حقيقة لما رأيتها تقود الناس كالهدايا نحوها ، وللحب في اللغة العربية مراتب وصفها صاحب الترجمان بقوله ” والهوى عندنا عبارة عن سقوط الحب في القلب في أول نشأة في قلب المحب لا غير . فإذا لم يشاركه أمر آخر وخلص له وصفا سمي ” حبا “.فإذا تبث سمي “ودا”، فإذا عانق القلب والأحشاء والخواطر لم يبق فيه شئ إلا تعلق القلب به سمي “عشقا”
3. ويواصل الشاعر التأكيد على معنى الحب فضلا عن جوهره بقوله “آمنت ” أي أيقنت ، ثم أفضى بتشبيه معناه بتلك الحمرة التي في شفة الفتاة المعبر عنها ( اللهب ) ، وعلى إدراكه في معناه السامي الصوفي الكاشف للحجب كأنه (صرح…بين النجوم ) يطمح العابرون – المحبون من بني البشر- إلى أنوار ونيران مشاعله وطوبى لمن سلك دربه ، لأن المحبة تكسب النفس رحمة وروحية ريحانية ، كما تكسب صاحبها الشرف والمرتبة العالية ، قال :
( ذنب المحبة أن القلب عانقها *** والحقد مال إليه المال والجاه)
…وكفى بالمحبة عزا وشرفا أن القلب معانقها بينما الحقد يعانقه المال والجاه وسرعان ما يزولان ، ويظل القلب يناجي روح المحبة لأن الحب والقلب متعانقان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأن المحبة تقطع المسافات في سرعة قياسية ، وأعظم من ذلك كله أن المحبة ترضي الله ورسوله وهي أساس الإيمان. وفي الإسلام المتحابان ممن يظللهم الله يوم لا ظل إلا ظله ، فالمحبة فيها الخير كله قال الشاعر( ما مست النار أرواحا بها شغف ) والمحبة كتاب مستور من النار الحقيقية يوم القيامة إذا كانت خالصة لوجه الله ، ومن النار المجازية أيضا التي يراد بها الشحناء والبغضاء.وعبر الشاعر عن حبه بأساليب بلاغية أخبر فيها عن العشق فأسند حقيقة الحب لأفعال مثل (سكنت ، زارت ، أدركت ، آمنت ) وكلها أفعال ماضية دالة على ثبوت الحال ، في معجم مشحون بعاطفة متقدة صادقة مستفادة من قوله : ( قلب جرحناه ، عاش الهيام ، شدة الوجد ، زارت الأشواق ، روح الصبابة ، شمس المحبة ، لذة الوصل ، الآهة الحرى…) ، كل هذا يحيل إلى سكرة الوجد والهيام التي سمى عالمها في قوله :(خذني …..في عالم ثمل) أي في غيبة يعيش فيها القلب أحواله مكتويا بشوقه في درب الهوى الذي هو ( نار المشاعل في درب سلكناه) وفي ( شغف روح الصبابة والنجوى ) شوقا واشتياقا للنور والسعادة والتخلص من عوالق عالم الدنيا المحسوس الموسوم بالأحقاد ، يقول :
(الفجر في كوة الأنوار ندركه *** والطهر في برزخ الأرواح نلقاه)
فكانت هذه دعوة منه إلى الحب المتسامي عن حب المحسوسات الدنيوية والزهد فيها، والزهد كما يعرفه بن عجيبة “برودة القلب عن السوى ، وعن الرغبة في غير الحبيب، وهو سبب المحبة ”
4. والارتقاء بالحب والشوق والاحتراق والوجد إلى مقام الطهر والصفاء والنقاء . وشاعرنا دله حدسه ووجدانه على درب المحبة وهو سالكه ، والسالك هو الذي مشى على المقامات بحاله في مجاهدة ورياضة ، حمل النفس على مخالفة الهوى وتهذيب الأخلاق بالرياضة .
والقصيدة عميقة المعاني مختارة الألفاظ والتراكيب، عني فيها الشاعر بلغته الشعرية وأساليبه عناية مكنته من إيصال المعنى العميق في التركيب واللفظ الأنيق مستعملا الأساليب البلاغية ، منها النداء (يا عاشق الحب ، يا راهب الحب ، يا حامل الوجد)، حيث يجرد الشاعر من نفسه شخصا آخر يناديه ، وذلك دلالة على توجهه نحو الحب لرفع النقاب عن حقائقه ، و منها المجاز الذي تحفل به القصيدة ؛العقلي منه واللغوي ، المتمثل في الإسناد بالنسبة للأول كقوله (لبى الصبابة قلب) والاستعارة في قوله : (مذبح الأشواق) و(سكنت جرح الهوى)، وكنى عن شدة الحب وتمكنه منه بقوله :(ذاب القلب من وله) وعن الحب ب (الطهر) وعن الدنيا ومشاكلها ومنغصاتها ب( دار المتاعب )، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر ذلك أن المعنى المجازي ومعنى المعنى يسعف الشاعر في التعبير عن معانيه العميقة ، ويفتح النص على القراءات والتأويل . وإيقاع القصيدة قوي جدا يؤثث الداخلي فيه تقارب مخارج حروف بعض الكلمات وتكرار بعض الحروف فيها مثل ( الجرح ، فرح ، صرح ، روح ،الحرى ، الرحمة …) وكلها تحيل إلى الحنين والمحبة . ويزيده قوة كذلك تكرار بعض الصيغ الصرفية (عاشق ، راهب ، واهب ، حامل ) و(أشواق، أحقاد، أفراح ، أرواح، أنوار ، أحلام…الخ). أما الخارجي منه فهو مستمد من تشكيلة البحر البسيط . مما أعطى القصيدة إيقاعا قويا مع عمق المعاني والصور الأدبية . و يجعلنا نلمس في هذه القصيدة الخصائص المميزة لشعر التصوف لأن خصائص التصوف عامة ، كما يذهب د. توفيق الطويل، تتلخص في : أولا : الترقي الأخلاقي لأن التصوف يقوم على رياضة روحية، تستهدف الرياضات النفسية .ثانيا : العرفان الذوقي المباشر المتمثل في استخدام الذوق طريقا لإدراك الحقائق المستثرة وراء المحسوسات . ثالثا : الطمأنينة أو السعادة ، وهي غاية تتحقق في قهر دواعي الشهوات . رابعا :الرمزية في التعبير، إذ تحمل العبارات معاني لا يعرف الكثير منها إلا بالتحليل والتعمق والتأويل
5. هكذا تبني القصيدة عالمها الرمزي الصوفي بمعجمها وأساليبها المعبرة عن معانيها العميقة الدالة على أحوال الذات الشاعرة في مقامات الوجد والعشق . بين الإخبار مرة وبين التساؤل أخرى، واستعمال المجاز ثارة للإلمام بأحوالها من حزن وبسط وانقباض، وذلك طلبا للاطلاع على ما وراء الحجاب من الحقائق الغيبية ، وطلب الوصل والسمو والاحتراق بنار الشوق والوجد وأحوال المحبة التي عبر عنها الشاعر بكفاية شعرية فائقة .
و ختاما نقول مع بنعجيبة : “المحبة ميل دائم بقلب هائم …يظهر هذا الميل أولا على الجوارح الظاهرة بالخدمة ، وهو مقام الأبرار …فبدايتها سلوك وخدمة ، ووسطها جذب وفناء ، ونهايتها صحو وبقاء .”
6. هنيئا لمن سلك دربها .
الهوامش
1- ترجمان الأشواق ، محيي الدين بن عربي ، دار المعرفة ، بيروت ،ط1،2005، ص 24.
2- معراج التشوف إلى حقائق التصوف ، عبد الله بنعجيبة، ت. عبد المجيد خيالي ، مركز التراث الثقافي المغربي ، الدار البيضاء ، 1224هـ ، ص 36.
3- ترجمان الأشواق ،.ص 39.
4- معراج التشوف ، ص 30.
5- في رحاب التصوف الإسلامي ، كتاب في تراثنا العربي الإسلامي ، د.توفيق الطويل ، عالم المعرفة ،ع87،مارس 1985. الكويت
6- معراج التشوف ، ص 36.
د. فطنة بن ضالي / المغرب