الشاعرة عائشة الحطاب من الأردن، حاصلة على جائزة نازك الملائكة من مصر، حاصلة على جائزة القلم الحر للإبداع العربي من مصر، عضو في رابطة الكتاب الأردنية، عضو في رابطة شعراء العرب، تم تكريمها في أكثر من دولة عربية، شاركت في مهرجانات شعرية محلية ودولية، صدرت لها عدة مجاميع شعرية (أصابع تبتكر النار، يبكيني المغيب، ما تبقّى من اللاشيء).
المجموعة الشعرية المرسومة بـ (ما تبقى من اللاشيء) الصادرة في الأردن، من أربعين نصا، في مئة وخمسين صفحة، تحمل الشاعرة في اغلب قصائدها مسحة من الحزن؛ ما جعل أسلوبها وشخصيتها بارزة في النصوص، وهذا ما يدل على صدقها في نقل الكلمة، التي تحرك مشاعر القارئ والتأثر بها، فضلا عن نفسها الطويل في كتابة القصائد الطوال، وقدرتها اللغوية في كتابة الشعر.
الحطاب شاعرة تفتش عن جروح سكنت في أعماقها، ربما تجد متعة في ذلك، لكنها قوية الإرادة، وذلك كان أسلوب النفي واضحا في مجموعتها، ولاسيما في أداتي النفي (لن ، لم)، فهي تنفي الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، وذلك لرفضها الضعف والاستسلام، ليس عن نفسها فحسب، بل أحيانا عن الوطن أو المرأة بصورة عامة، فهي لسان حال الجميع، مثل (ولم أزل، لن يسكن، لم تعرف، لم انتظر، ولم انتبه، لم يبق، لن تبلغي، لم يحترق، لن ينفع، لن تبلغ..)
نجد الحزن، كما قلنا في نصوصها، وذلك كتبت عن أخيها وابنها، ورثاء ابنتها، وعن الوطن والشهيد، والغزل المليء بالحزن، وعن سحابة الصيف.. وغيرها تعبيرًا عن حزنها. أول نص في مجموعتها، في الثناء عن أخيها (عراب أغنيتي)، استخدمت الضمير المخاطب (أنت)، وذلك لكون أخيها صاحب الفضل والعطاء والحب والكرم، فهو كل شيء بالنسبة لها:»وأنتَ، حين تضيقُ الأرض بي كتفي/الغيمُ والبَرَدُ والصبحُ أنتَ، وأنتَ/لـولا حياء أمــامَ الناسِ يمنـعني/لقــلتُ إنـــــكَ بين الناسِ منفردُ».
في حين نجد الضمير أنت، اختفى تماما في نصها لابنها (نديم الليل) وذلك هنا المعادلة تغيرت، أصبحت هي المعطاء والحنون له (لإبراهيم قافية القوافي، لإبراهيم أوردتي ودمي) وبعد إن أعطته في كل ما تملك، انتقلت إلى أسلوب النداء في نهاية النص، بأن هذا العطاء قد اتعب قلبها، مما دفعها أن تستخدم الفعل الأمر (فكن، وكن) دليل على وجعها الكبير:»وأُمّــكَ يا ابنَ أُمّكَ أَتعبَتَها/صحارى القلبِ في الريحِ السَّواقي/مُقلتيهَ إحدى فكنْ للقلبِ/وكُن للعينِ خاتمةَ التَّصافي».
انتقلت إلى عرض آخر ( الرثاء )، لابنتها في النص (يبكيني المغيب) استخدمت الضمير المتكلم (أنا) للتأكيد وهي تناديها بأداة النداء (يا) وبدأت تسألها أسئلة مجازية، بأداة الاستفهام (متى) للزمان، وفي تعبير جميل (عن عيشي أتوب) ثم انتقلت إلى أداة الاستفهام الهمزة، جميل هذا الانتقال إلى سؤال تصوري (أأخرك الهوى أم تخطو على مهل) واعتبرت الموت هو الهوى والنصيب تصوري رائع :»أَنا يا مَوتُ أَتعَبنِي اشتِياقي/متى يا مَوتُ عن عَيشِي أَتُوبُ؟/أأخركَ الهوى؟ أم كنتَ تخطو/على مَهَلٍ فَــأَخَّركَ الَّنصيبُ».
ثم تبقى في دائرة الحزن في نصوص أخرى: «سَحابةَ الصيفِ منكِ الماءُ ما نَزَلا/وَلَمْ أزَلْ رُغمَ دَمعِي أشتَهِي الـبَلَلا/أرَضي تَـَبرعمَ فِيهَا الحُزنُ فَارتَفَعَتْ/قَصِــيِدَةً فِي سَمَاءٍ حُمَّلَــتْ جًبَلا».
وأيضا نص آخر بعنوان يقتاتني أرقي برز، فيه الحزن والأرق والبحث عن الذات :»أمشي على النَّارِ ، هل في النَّارِ من ألمٍ؟/من ألفِ موتٍ بغيرِ النارِ لم أثقِ/لأنني الماءُ يسري الِشعرُ في شَفَتي/لأنني الضَّوءُ يَمحو ظُلمتي أَلَقـي».
لم تكن الشاعرة بعيدة عن وطنها ، تشاركه في همه وحزنه، وتنفي بأداة النفي (لم) أداة نفي وقلب وجزم ، كل شيء ضاع حتى الحبيب والأهل والسكن، ولم يبق غير المحن، ثم تخبره بأفعال ماضية (باعت، ساد، صار) و (بيضاء أعيننا) دليل على قوة الحزن :»لم يبقَ من وطني إلّاكِ يا مِحنُ/فلا حبيبٌ ولا أهلٌ ولا سَكنُ/باعتْ جهاتُكِ يا أرضي خَرائطَها/حتى ثباتٌكِ بالتغييرِ مُمتحنُ/سادَ السَّوادُ وصارَ الموتُ لعبتَنا/بيضاءُ أعيُنَنا فابْيصْ يا كفنُ».
ثم انتقلت إلى مدينتها مدينة أبيها ومدينة أجدادها، وهنا جسدت حبها وعشقها لأرضها ، بعد أن صار الحقد استخدمت الفعل (نفث) بمعنى رمى، مما له قوة في التعبير، فلم تملك الشاعرة غير الدعاء لمدينتها فخاطبت النار (يا نار كوني) وهذا اقتباس من كتاب الله (القرآن الكريم) ثم تبين لنا أن هذه المدينة مفرطة في جمالها وحسنها من البدر والشمس: «النّارُ نفثتُ في المدينةِ حقدهَا/يا نارُ كوني للمَدينةِ بَرودَها/ودَنا إليها البدرُ عندَ تمامه/ليبيتَ من فرطِ الصبابةِ عندَهَا/واحتارَ فيها الصُّبح: كيفَ يزورُها/والشمسُ تشرقُ في الخريطةِ بعدَها؟».
كان الشهيد حاضرًا في قوافي شعرها وضميرها وهي تصفه بـ (الثاقب) وتشبهه بـ (بالرصاص) وجه الشبه بينهما (القوة) ثم تتساءل بأداة الاستفهام (كيف) للحال، لكن هنا خرجت للتعجب أي مستحيل نسيانه، ثم نذهب الشاعرة إلى أن لم يكن هناك حي سوى الشهيد تحت التراب، باستخدام أسلوب الاستثناء بـ (سوى) : «»ثاقبٌ كالرصاصِ عزمُ شهيدِ/كيفَ ينسى من أنجبتهُ يداهُ/إنْ توارى الشهيدُ تحتَ الترابٍ/لم أجدْ حياًّ في الترابِ سواهُ».
من غرض الغزل في نصها (ما تبقى من اللاشيء) وهي تكابد الشوق (أخفي، رويت) ولكن سرعان ما تسأل سؤالا جميلا (حتى متى أرتدي.. وما للنص تأويل): «أُخْفي حَنيني فلا قَالٌ ولا قيلُ/فيكَ انشغَالي وعني أنتَ مَشغَولُ/رويتُ قصّتَنَا للنَّاسِ مُوجَزةً/في قِصَّتةِ الحُبِّ كمْ يَحلو التَّفاصيلُ/حتَّى مَتى أرتَدي في الشعرِ أقنعَةً/النَّصُّ أنتَ وما للنص تَأويلُ/عيناكَ ليلٌ شَفيفٌ لا حُدودَ لهُ/والخدُّود وردٌ بماءِ الصُّبحِ مَغُسولُ».
في نصها (هجائيات نسوية) تفتخر وتدافع عن المرأة، باستخدام الضمير ( نحن ) و إذا ) الشرطية تدل على الثقة بالنفس : «نحنُ اللواتي ينامُ الغيمُ في يدنَا/نحنُ الزجاجُ وفينا الضوْءُ ينكِسرُ/إذا بَكَيْنَــا رَأيتَ الشَّمْسَ مُطْـفـأةً/إذا ضَـــحِكْنَا يَذوبُ النَّجْمُ والقَمَرُ».
نجدها تدافع عن كل شيء حتى عن لغة الضاد واعتزازها بها استخدمت أسلوبا من أساليب التوكيد (القسم) المتكرر، الذي كان جوابه بالنفي القاطع، بأداة النفي والنصب التي تدخل على الفعل المضارع (لن) في النهاية تختمه بسؤال عن العاقل بـ (مَنْ) في شيء من التعجب والاستغراب : «قَسَمًا بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَنَظْمِهِ /وَبِمَا حَفِظْتُ منَ البَيَانِ الـمُفْحِمِ/قَسَمًا بِعَذْبِ الـنَّثْرِ وَالـشَّعْرِ العَظيمِ/وَكُلَّ محكمةٍ تُسَوَّرُ مِعْصَمِي/لَنْ أُبْدِلَ الضَّادَ الحَرُونَ بِغَيْرِهِ/مَنْ ذَا يُبَــدَّلُ جَنَّـــةً بِجَهَنَّمِ؟».
ثم من نصوصها في مجموعتها هذه شعر التفعيلة في نصها ( مدينة الدمع ) على شكل أسئلة تحكي واقعا مؤلما، ربما لا تجد جوابا : «أينَ النّاسُ أَسأَلهمْ : من أينَ للدَّمِّ أن يغدو/دَمَـًا كَذِبَا؟/مَنْ عَلَّمَ الطّفْلَ/أنّ النّارَ دُمْيَـتُةُ؟/مَنْ أَطعَمَ الفَأسَ غُصنَ العُمر واحتَطَبَا؟».
طالب العكيلي