صفحة من الذاكرة ( يا فلسطينية والبندقاني رماكو )
أنجبتني أمي في أواخر سيتنيات القرن الماضي ومطلع سبعينياته في بقعة جغرافية تقع ضمن مدينة رام الله من ناحية الجنوب الغربي يقال لها ( الماصيون ) هذا الحي يبعد قليلاً عن مركز المدينة مسافة لا تتجاوز دقائق أثناء ركوب السيارة ولكن في ذاك الزمن كان يبتعد كثيراً لأننا كنا صغاراً ونشاهد الأشياء ليست بحجمها الحقيقي وكذلك بسبب قلة عدد الحافلات وشح المنازل السكنية وكانت تستغرق المسافة ساعة زمنية وأكثر سيراً على الأقدام ،
كانت تقطن هذا الحي المسمى (الماصيون ) والذي كنت أخجل من ذكر اسمه وأنا صغيرة حتى علمت بعد عقود عن أهميته تقطنه بعض عائلات رام الله الكبرى مثل عائلة الكعيبني والتميمي والخياط وابو عين ، والتحري ، وغيرهم ويشرف على بلدة رافات المحاذية لضواحي القدس .
عائلة (أبو فؤاد الكعيبني) هي عائلة مسيحية تمتلك فيلا كبيرة جداً وجميلة تتكون من ثلاثة أدوار تعلوها نوافذ وشرفات تغمرها الورود الجورية المتعددة الألوان ونافورة ماء في ساحتها قبالة مدخل الفيلا وأشجار صنوبر تلفها بلفيف رائع من الروائح الشجرية سواء في فصل الربيع أو الشتاء وأعشاش الطيور التي تعتبرها مملكتها الخاصة حيث تشاهد طوفان من الحمائم والحساسين التي تتغنى بالجمال صباحاً ومساءً وكانت تحيط بها أيضاً مساحات من الأراضي المزروعة بما يقارب خمسين دونم مسيجة بأشجار السرو والصنوبر وكذلك حقول وبساتين التفاح اللبناني والسفرجل والعنب وكروم البرتقال والورود الجورية والقرنفل ، وكانت تحتوي على مزرعة للطيور واصطبل للخيول؛
بمعنى أخر عائلة إقطاعية لها باع وذراع في المدينة ولديهم عمال وخدم ،
كانت معاملتهم جيدة جداً للجيران والعاملين حيث لم يمنعوا أحد المارة من قطف الورود أو الثمار الكثيرة لا سيما التفاح الأحمر الضارب للصفرة وكذلك التين والجوز والسفرجل والليمون وغيرها
، بعد سنوات طويلة تم بيع هذه الفيلا وما حولها وردمها وإقامة مشاريع وفنادق راقية منها فندق جراند بارك وروكي حالياً مما أغدق عليي حزن عتيق لمحو معالم هذه الذكريات كان منزلنا الصغير على الشارع العام بمحاذاة فندق جراند ،
بالعودة للعائلات كانت هناك تشكيلة مختلفة أغلبها من الديانة المسيحية وبعض العائلات المسلمةجاء بعضهم من مدن فلسطين أثناء حرب عام 67 ، فكانت هناك عائلة الخياط من نابلس والتميمي من الخليل والقدس وعائلة العجوري وأصلهم بدو وبعض من اللاجئين من مدينة اللد ويافا وبلدة دير طريف والحديثة بالإضافة إلى بلدة رافات التي تبعد عن حي الماسيون سوى ثلاثة كيلو مترات وتستطيع الوصول اليها مشياً على الأقدام
تعدد ثقافات هذه العائلات أدى إلى علاقات رائعة يسودها التعاون والود والتعلم وخاصة من قبل المسحيين وكنا لا نشعر بأي فروقات بيننا ،
والدي كان من أوائل من حضروا للمنطقة قادماً من بلدته في جنوب فلسطين بعد أن اتفق مع شقيقه بالتنازل عن املاكه جميعها من بيوت وأراضي لصالح أخيه مقابل أن يجلب معه جدي الشيخ الضرير لتقوم والدتي على رعايته وكان ذلك في بداية عام 1960 حيث اكترى منزلاً مكونا من غرفتين صغيرتين تعود ملكيته لشركة الكهرباء بايجار شهري ( دينارين ) ويحيط بمنزلنا ما يقارب عشرة دونمات من الأرض تعود ملكيتها للسيد ” سالم الزغروت” استصلحها والدي وأصبحت أرض زراعية رائعة فيها من الغرس مما لذ وطاب من فاكهة وأعناب وخضروات
وكان قد أوكل العمل في زراعة الأرض والعناية بها لوالدتي بسبب انشغاله في عمله نهاراً إضافة إلى تربية عدد قليل من المواشي والخراف لتساعدهم في ظروف العيش وتأسيس ثروة تنعمنا بها لاحقاً ،
أتممت العام الخامس من العمر وأصرت والدتي على إلحاقي بالمدرسة وكانت قد اختارت أنجح وأقوى مدرسة على مستوى المحافظة بل الوطن وكان اسمها
( مدرسة التطبيقات والتجارب التربوية النموذجيه ) وكانت الهيئة التدريسية من نخبة المعلمات في الوطن على الصعيدين التربوي والتعليمي ولا يجوز تبديل المعلمات من هذه المدرسة ولا نقلهن لمدارس أخرى حيث أنهن نخبة النخبة ،
اختيار الطلبة يتم ضمن معايير وقوانيين صارمة واختبارات كثيرة وكانت مدرسة مختلطة ذكور وإناث تعلمنا فيها أداب الكلام والأفعال والتعامل مع الغير والموسيقى والرياضة والرسم والتمثيل والمسرح والتطريز والخياطة والطبخ بالإضافة إلى الدروس الأكاديمية ،
أقنعتهم والدتي بأنني ذكية جداً رغم صغر السن بالنسبة للتلميذات وسأكون تحت التجربة مدة شهر وينظر في الأمر لاحقاً ولحسن الحظ تفوقت واستمرت الدراسة ،
حالة التخبط والضياع التي عشتها بعد التحاقي في المدرسة كانت مثيرة للقلق ،
طفلة من عائلة قروية أعيش في مدينة في بيئة مختلفة عن البيت في مدرسة تشبه الغستابو في نظامها الصارم رغم الاحترام والتربية تحيط بنا عائلات وجيران مسيحيين ومسلمين بدو قرويين ، ثقافات وعادات مختلفة لهجات عديدة ، مستويات معيشية مختلفة ، ولكن كل هذا المزيج الرائع
ادى إلى تفتح مداركنا نحو الحياة
وتوسع الثقافة واتقان لهجات بلداتنا العديدة بلغة عربية ومخارج حروف صحيحة وعلاقات ناجحة استمرت لعدة أجيال ، وبالإضافة إلى كون الحي قريب من مطار قلنديا( القدس الدولي) حيث كنت أحمل الكتب المدرسية وأصعد التلة القريبة لمراقبة حركة الطائرات في الإقلاع والهبوط ومتابعة الدروس بنهم كما ذكرت عن هذا الموضوع في سرديات كتبي الورقية السابقة ،
بعد سنوات طويلة اكتشفت أنني عشت وترعرت في الحي الماسوني ( الماصيون )
مريم حوامده